أحمد أسامة
خلال الساعات الماضية، تم الإعلان عن حصول الكاتبة المصرية مي التلمساني على وسام الفنون والآداب بدرجة فارس من الحكومة الفرنسية، وهو وسام فخري تمنحه وزارة الثقافة الفرنسية ممثلة عن الحكومة الفرنسية، تقديرا للمبدعين في المجال الفني أو الأدبي، وساهمت إبداعاتهم في إثراء الفنون والآداب في فرنسا والعالم ككل.
يعتبر وسام الفنون والآداب من أرفع الأوسمة الأدبية على المستوى الدولي، حصل عليه من مصر سابقا الكاتب علاء الأسواني، و الملحن والموسيقي طارق علي حسن، وعلى المستوى العربي حصل عليه كلا الفنانة فيروز، والفنانة ماجدة الرومي، والشاعر اللبناني إسكندر نجار، والكوميديان المغربي جاد المالح، وعلى المستوى العالمي حصل عليه السيناريست الأمريكي راي برادبيري، والممثلة الهندية ايشواريا راي، والكاتبة الروسية ليودميلا أوليتسكايا، وغيرهم.
ولدت مي التلمساني في القاهرة عام 1965م، والدها المخرج التسجيلي عبدالقادر التلمساني، وعمها المخرج السنيمائي كامل التلمساني، درست الأدب الفرنسي بكلية الآداب جامعة عين شمس، وحصلت على درجة الليسانس 1987م، ونالت درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1995م، عن تحليلها لرواية الأديب الفرنسي مارسيل بروست” الملذات والأيام”، وفي عام 1998م حصلت على منحة من الوكالة الكندية للتنمية الدولية للحصول على درجة الدكتوراة في الأدب المقارن بجامعة مونتريال، ونالتها برسالة عنوانها “الحارة في السينما المصرية: 1939-2001”.
حصول مي التلمساني على جوائز ونيلها للتكريمات ليس بجديد عليها، فقد نالت جائزة “آرت مار” لأفضل عمل أول في البحر الأبيض المتوسط سنة 2001م، من مهرجان باستيا بجنوب فرنسا عن الترجمة الفرنسية لروايتها “دنيازاد”، كما حصلت على جائزة الدولة التشجيعية لأدب السيرة الذاتية سنة 2002م من وزارة الثقافة المصرية عن نفس الرواية، بجانب تعيينها أستاذا مساعدا للسينما والدراسات العربية بجامعة أوتاوا، كما أنها تعد من أبرز كتاب جيل التسعينات، وأسهمت في إثراء الثقافة المصرية بالعديد من المؤلفات الإبداعية، والدراسات النقدية والترجمة.
ترى مي التلمساني أن تجربة الكتابة بالنسبة لها هي المساحة الوحيدة والممكنة للتعبير عن أفكارها، تشجعها على التمرد وتجاوز كل ما هو تقليدي، تصفها بأنها علاج نفسي ناجح بامتياز، تحاول من خلالها التعرف على نفسها، والاقتراب من ملامحها النفسية والشخصية أكثر وأكثر، فهي تجربة حياة في حد ذاتها، تعلن فيها عن نفسها بكل صراحة، وتبحث عن من يشبهونها، كأنها تناقشهم أفكارها، وتبادلهم مشاعرها وتصارحهم بحبها لهم، دون الحاجة إلى التواصل المباشر معهم. كما أنها مؤمنة بأن تجارب الكتابة مرتبطة بشكل أو باخر بمشاهد الحياة الذاتية، وأن الخيال ليس كل شيء، فالكتابة الإبداعية خليط من السيرة الذاتية والخيال المستمد من الواقع، ونظرا لتنقلها الدائم بين مصر وكندا لمدة تزيد عن 20 عاما، يتضح اهتمامها بوصف الأماكن وتفاصيلها، والتأكيد على أن المكان عنصر أساسي ضمن منظومة الكتابة الإبداعية.
تنوعت إسهامات مي التلمساني الفنية والإبداعية بين الترجمة والتأليف وتقديم الدراسات النقدية، ففي مجال الترجمة كان لها بصمة واضحة ضمن المشروع الناجح “سلسلة الأدب العالمي للناشئين” عن الهيئة العامة المصرية لقصور الثقافة والهيئة المصرية العامة للكتاب، فشاركت في ترجمة “قصص قصيرة من الأدب العالمي” عام 1990م، وترجمة رواية البحيرة الزرقاء عام 1998م، وترجمة المجموعة القصصية “موجول.. 4 حكايات” عام 1999م، وترجمة رواية ديزيريه الصادرة عام 2002م، وترجمة رواية فارس من اسكتلندا والصادرة عام 2004م، وترجمة كتاب المدارس الجمالية الكبرى في السينما العالمية والصادر عن المركز القومي للترجمة عام 1990م، والذي يتضمن دراسات متنوعه عن 15 مدرسه جمالية أوروبية وأمريكية، وترجمة كتاب المونتاج السنيمائي الصادر عن أكاديمية الفنون عام 1996م، وترجمة كتاب لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي للأديب الإيطالي الشهير إيتالو كالفينو، عبارة عن 12 دراسة لأدباء عالميين، والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1999م، أيضا شاركت في ترجمة كتاب عن السنيمائي الفرنسي الشهير سيرج دانيه بعنوان “سيرج دانيه.. في مكان آخر” والصادر عن المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة عام 2017م.
الملاحظ في مؤلفات مي التلمساني تعاونها المثمر والمستمر مع دار شرقيات، والتي كانت من أشهر دور النشر المصرية في فترة التسعينات والعقد الأول من الألفية الثانية، واشتهر عنها دعمها المستمر للمبدعين الشباب، قبل أن تتكاثر عليها الأزمات وتعلن توقفها عن العمل منذ عدة سنوات. أثمر تعاونها مع دار شرقيات عن إصدار العديد من الروايات والمجموعات القصصية استهلتها بمجموعة ” نحت متكرر” عام 1995م، ثم روايتها الأشهر “دنيا زاد” عام 1997م، والتي تندرج تحت نوع أدب السيرة الذاتية، حيث تناولت بكثير من العواطف والمشاهر المختلطة، فقد مولودتها الأولى، والتي كانت تنوي تسميتها بنفس الاسم، وحازت لها الرواية مقعدا أساسيا ضمن باقة الشباب المبدعين، وتناولها الكثيرين بالإشادة والنقد الأدبي المتميز.
ثالث مؤلفاتها كانت مجموعة قصصية بعنوان “خيانات ذهنية” صدرت عام 1998م، صادرة عن دار الأمل للطباعة والتوزيع، ثم عودة مرة أخرى للتعاون مع دار شرقيات وإصدار رواية “هليوبوليس” عام 2003م، تدور أحداثها في الفترة بين 1970، عام وفاة الرئيس عبدالناصر، و1981، العام الذي اغتيل فيه الرئيس السادات. وتتطوُّر أحداثها من خلال منظور طفلة تحيا في بيت الأسرة الكبيرة، المكوَّنة من أمها وعمتيها وجدتها، ويمكن إدراجها تحت تصنيف أدب السيرة الذاتية أيضا، كما صدرت أيضا في طبعة جديدة عن دار الشروق عام 2021م. ثم صدر لها يوميات بعنوان “للجنة سور” عام 2009م، ثم أصدرت رواية “أكابيلا” عام 2012م، وتصرح بأنها نشرت هذه الرواية في 14 حلقة مسلسلة في مجلة (روز اليوسف)، ثم قامت ثورة يناير، وعادت لمراجعة النص وإعادة كتابته بروح أكثر مغامرة وربما أكثر تقشفًا بعد الثورة، ونُشرت الرواية. وتتناول قصة صداقة بين الراوية وصديقتها الفنانة التشكيلية البوهيمية التي تموت في الأربعين في بداية الرواية، وتسعى الراوية لإعادة إنتاج حياتها من خلال فعل التذكر وأيضًا استنادًا إلى يوميات صديقتها.
صدرت نسخة مترجمة من رسالة الدكتوراة خاصتها عن المركز القومي للترجمة عام 2014م، عالجت فيها مفاهيم التكوين والخلق والإنتاج، لفهم الخطاب الاجتماعي والجمالي للحارة المصرية، كما عالجته الأفلام السينمائية.
وتستند التلمساني في كتابها إلى مقولة الفنان الفرنسي الشهير بول كلي “إن الفنان لا يصور المكان أو يرسمه بل يخلقه وينتجه. واعتمدت في تناولها على ثلاثة تخصصات هي “النقد السينمائي، والبحث الاجتماعي والمرجعية التاريخية”.
قسمت مي التلمساني الأفلام التي تعرضت لها في كتابها إلى ثلاث مراحل تاريخية، الأولي من 1939 حتى 1952م، انطلاقا من فيلم “العزيمة” للمخرج كمال سليم، و”السوق السوداء” للمخرج كامل التلمساني.
وتبدأ المرحلة الثانية من العام 1954 حتى 1980م، وفيه تظهر أفلام مخرجين مثل صلاح أبو سيف وحسن الإمام، الذي قدم ثلاثية نجيب محفوظ، مرورًا بموجة أفلام السبعينيات مثل “السقا مات” و”حمام الملاطيلي”.
أما المرحلة الثالثة فتمتد من 1981م وبداية فترة تاريخية جديدة ومدرسة سينمائية مختلفة أطلق عليها “الواقعية الجديدة” حتى 2001م عام الانتهاء من الدراسة.
صدر لها مجموعة قصصية بعنوان “عين سحرية” عام 2017م عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع، ثم مؤخرا صدرت لها رواية مميزة بعنوان “الكل يقول أحبك” عن دار الشروق للنشر والتوزيع. تميزت هذه الرواية بأسلوب سردي طالما أبدعت فيه الكاتبة عبر أعمالها السابقة، رغم الشخوص المتعددين، فالرواية تحتوي على 5 أصوات، يسيرون جنبا إلى جنب مع تطور الأحداث، مع الاهتمام بتفاصيل المكان في الخلفية، فيبدو العمل في النهاية مثل البورتريه، تفاصيله مريحة للعين، بدون تعقيدات، خاصة مع تيمة الرواية الأساسية، التي تتناول قصة حب عن بعد، وأماكن مختلفة لأحداث الرواية،
حيث تحاول طرح تصوُّرًا مُغايرًا في كل مرة لما هو متوقَّع أو سائد، يرتبط ذلك بفكرتها عن الحرية والتحرّر عبر الكتابة، كما صرحت سابقا.
مازال في جعبة مي التلمساني الكثير من الإبداع، ومازال القراء ومحبي الفن في شوق ونهم للاطلاع على ذلك الابداع، وها هي تتوج مسيرتها الإبداعية بحصولها على تكريم رفيع المستوى، وليس هناك أرفع وأزكى من الحصول على لقب فارس.