ظلّت مصر مدينة لتاريخ خاص بالغ الثراء ومنقطع النظير في طبيعة اتصاله، تستلهمه باستمرار فتجد فيه متسعاً لأية وجهة تسعى إليها على مختلف صعد الحياة، حتى إن أية محاولة مصرية الآن – سواء على مستويات فردية أو جماعية أو مؤسسية بما يرقى إلى مستوى الدولة – سعياً إلى وجهة حضارية على أي نطاق لن تعدم في الغالب مثلاً من التاريخ المصري تستهديه تلك المحاولةُ وتستلهمه فيعينها بمدد عظيم.
إذا كان ثمة استثناء جدير بالالتفات إليه على هذا الصعيد، فهو الوجهة الإفريقية في الانتماء، وليس ذلك ابتداءً لأن التاريخ المصري منذ فجر الحضارة الفرعونية بدا منقطعاً أو قليل الصلة بالعمق الإفريقي، بقدر ما هو لسبب متعلّق بالتعريف الدقيق للمراد بـ”إفريقيا” عند الحديث عن البعد الإفريقي في الحضارة المصرية عبر الزمان.
والحق أن مأزق الانتماء القاريّ حالة باتت لا تسلم منها دولة في العالم الحديث على امتداد قاراته بدرجة أو أخرى، ونقول العالم الحديث لأن القارة لم تكن تعني بعداً في الانتماء جديراً بالانشغال في العالم القديم يتجاوز ما تقتضيه المصالح الاقتصادية والعلاقات الجيوسياسية التي لا مناص منها، وعليه فإن الناس قديماً كانوا في تعاملهم مع الانتماء القاري أكثر تلقائية مما فرضته التكوينات السياسية الحديثة وما تمخّض عنها من كيانات متعددة في كل صعيد من صعد الحياة ثقافياً واقتصادياً وصحيّاً ورياضياً على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال.
ليس تخصيصاً للحالة المصرية فقط، ولكن بصفة عامة ليس من الحكمة أن يُطلب من دولة في أقصى شمال قارة مترامية الأطراف أن تكون على صلات حضارية وثيقة مع جميع الدول المتناثرة في أقصى جنوب القارة وغربها ووسطها وشرقها وما بين تلك الاتجاهات.
وبالحديث عن الحالة المصرية تحديداً فإن التحدّي شديد التعقيد، فإفريقيا تضمّ ابتداءً ثقافات شديدة الاختلاف يجمعها في الغالب القليل جداً مما هو مشترك وقابل للالتقاط عبر استدعاء إيحاءات البشرة السمراء وتخيّل صورة نمطية عن انفعالات وأنماط حياة لأصحابها شديدة العمومية. من الطبيعي أن تتلاقى دول شمال إفريقيا في العديد من المكوّنات الثقافية، وكذلك الحال مع الدول الواقعة على شرقها أو غربها أو جنوبها أو وسطها أو على أية رقع متداخلة بين تلك الاتجاهات. لكن حتى الدول الإفريقية المكوّنة لكيان جغرافي محدود لا تتلاقى تلاقياً تاماً أو حتى كبيراً في المكوّن الثقافي تحديداً، فاللغة ليس واحدة في أي من بقاع إفريقيا الجغرافية، بل إن اللغات/اللهجات تحديداً من شأنها أن تزيد طين الوحدة الإفريقية بلّة، فاللغات/اللهجات تتفرّع ليس في حدود الرقعة الجغرافية الواحدة فحسب في إفريقيا وإنما كذلك داخل الدولة نفسها بحيث تصل في العدد إلى المئات.
لكن ذلك ليس كلّ شيء، ولا حتى أهمّ شيء في سياق استعراض تحدّي الانتماء المصري تجاه إفريقيا. فكما أشرنا منذ قليل، ظلّت البشرة السمراء هي أظهر دلائل الانتماء الإفريقي لأية دولة وأبرز ما يبعث على تداعياته في خواطر العالم أجمع. وبرغم أن مصر، كما أشرنا في غير سياق، ظلت منفتحة الآفاق على كل الأعراق طوال تاريخها فإنها يصعب أن تُحشر في غضون الثقافة الإفريقية الصميمة والتي أشرنا إلى كونها تُختصر في خاطر العالم أجمع في البشرة السمراء – وأحياناً شديدة السمرة – وما تحمله من تداعيات ثقافية ومزاجية بعيدة بدرجة كبيرة عن خصوصية الحالة المصرية حضارياً وعرقياً.
المسألة ليست مرتبطة بتفوّق حضاري من أي قبيل على هذا الصعيد، بقدر ما هي أوجه تلاقٍ متاحة لا ريب بين مصر وإفريقيا، لكن أوجه التلاقي تلك لم تكن على امتداد التاريخ واضحة المعالم كما هو الحال فيما يتعلّق بمصر مع أبعادها الحضارية الأخرى بما في ذلك الانتماء إلى أوروبا نفسها، وذلك على نحو ما رأينا قريباً في حديثنا عن “مصر بين الشرق والغرب”، وبرغم ما ذهبنا إليه في ذلك المقام من ترجيح كفة الانتماء الشرقي لمصر على غير ما كان يأمله ويحفّز إليه المفكر المصري الكبير طه حسين عبر كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”.
العديد من الدراسات يشير إلى أن الحضارة الفرعونية على اختلاف مراحلها قد اتصلت ببعدها الإفريقي، وبعض تلك الدراسات يذهب إلى أن الفراعنة قد أعدّوا وأطلقوا الرحلات الاستكشافية إلى أعماق إفريقيا جنوباً، وبغض النظر عن دقة ذلك وتفاصيله فإن اتصال الحضارة الفرعونية مع المكوّن الإفريقي في العديد من أبعاده لا بدّ أن يكون قد جرى بطريقة أو بأخرى وبدرجة أو بغيرها. نعني هنا الاتصال بإفريقيا بما يتجاوز دول الجوار العربي غربها وجنوبها عبر السودان إلى الشرق الإفريقي عبر امتدادات متعلقة بموارد حيوية واعتبارات جيوسياسية متصلة بنهر النيل والبحر الأحمر امتداداً إلى بحر العرب والمحيط الهندي، أي بما يجاوز كل ذلك إلى العمق في وسط إفريقيا وغربها وجنوبها.
لكن المهم في سياقنا هذا ليس إثبات أن اتصال مصر عبر الحضارة الفرعونية القديمة قد تمّ بمختلف أنحاء القارة الإفريقية بدرجة أو بأخرى، فذلك سيبدو على الأرجح تكلّفاً في ادّعاء الانتماء القارّي، خاصة بالنظر إلى ما ذكرناه من أن التحدّي نفسه يظل ماثلاً أمام الجميع، فليس ثمّة انتماء آسيوي مطلق، سواء عبر تاريخ القارة الآسيوية بالغ العراقة وبالغ التنوّع أو من خلال حاضرها شديد الثراء وشديد التعقيد بالنظر إلى مكوّناته المتباينة بحدّة على اختلاف الصعد العقائدية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية وفي سائر مجالات الحياة. التحدّي نفسه ينطبق أيضاً على كل قارات العالم بما في ذلك أوروبا التي بلغت درجة خاصة من التجانس تحت ظلال الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس بما يلغى الفروق الثقافية والاقتصادية بل وحتى العرقية تماماً بين الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي نفسها.
نقول كل ما سبق وصولاً إلى نتيجة مفادها أن عمق اتصال مصر بالبعد الإفريقي على كافة الأصعدة قد تحقق في أفضل صوره حديثاً بحيث تجاوز – بما لا يترك مجالاً ذا اعتبار للمقارنة – ما يمكن أن يكون قد تحقّق في أيٍّ من مراحل التاريخ المصري على اختلافها، وهو إنجاز كما أشرنا فرضته طبيعة تكوين الحياة السياسية الحديثة التي جعلت الانتماء القاريّ قدَراً لا مفرّ منه على المستويات الرسمية في السياسة وما يترتب عليها في الاقتصاد والإعلام والثقافة والرياضة وسائر شؤون الحياة.
وجدت الشخصية المصرية نفسها حديثاً إذن أمام تحدّي التعامل مع انتماء قسري تجاه القارة الإفريقية طال جميع دول القارة بدرجة أو بأخرى، فأجاد المصريون كعادتهم التعامل مع التحدّي ليس فقط بما يخرجهم من امتحانه بنجاح، وإنما بما يجعلهم يحتلّون المراتب الأولى في كل سياق تنافسي إفريقي على اختلاف الصعد، حتى إذا كانت معظم مكوّنات الشخصية المصرية تشير بوصلاته إلى مختلف الاتجاهات أكثر مما تشير إلى العمق الإفريقي.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])