“أين الحقيقة إذن في عروبة مصر؟ أين هي من الفرعونية القديمة؟ أهناك حقاً فارق بين نوع العروبة شرق السويس وغربها كما يزعم بعض الدعاة؟ ثمة عدة حقائق. فإذا بدأنا من البداية، فإن أول ما يجبهنا هو أن الفرشة الجنسية الأساسية التي كانت تغطي نطاق الصحارى في العالم القديم من المحيط إلى الخليج كانت تنتمي إلى أصل واحد متوسطي. وفي العصر المطير، حين كانت الصحراء سفانا، يسودها الصيد الحجري القديم، كانت كثافة السكان مخلخلة جداً، ولكنها غطائية عالمية عميقة بصفة عامة. وفي هذا الإطار كانت الحركة والهجرة والترحل ظاهرة دائمة، ومن ثم كان الاختلاط الجنسي أساساً، ولا محل لعزلة او نقاوة ما. وكل الذي حدث بعد ذلك مع عصر الجفاف أن تجمعت كل مجموعة من هؤلاء السكان في رقعة محدودة، بذلك تحول الغطاء العالمي إلى الأرخبيل الجزري الذي نعرف الآن. ومعنى هذا أنه حدث “تقطع” في الغطاء القديم المتجانس جنسياً إلى عدة رقع متباعدة جغرافياً. ولكنها تظل متجانسة جنسياً. وهذا بالدقة مفتاح أنثروبولوجية عالمنا العربي”.
عبر براعة استلهام تخصصه الأكاديمي في الجغرافيا، التي أشرنا إليها من قبل، نقف فيما سبق من الاقتطاف مجدداً على واحدة من قراءات جمال حمدان العميقة التي يستند فيها إلى أثر الجغرافيا عبر التاريخ لتأكيد دلالة أنثروبولوجية بعينها.
يواصل المفكر الكبير في السياق ذاته، نقلاً عن الجزء الثالث من “مختارات من شخصية مصر” الصادر عام 1996 عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، فيقول: “فشعوب المنطقة – قبل العرب والإسلام – هم أساساً وأصلاً أقارب انفصلوا جغرافياً، ابتداءً من العراق إلى الشام إلى الجزيرة العربية، ومن مصر إلى المغرب أو السودان. والتوطن المحلي والمؤثرات الدخيلة الموضعية، والتزاوج الداخلي الذي حدث بعد ذلك، لا يمكن أن ينتج أكثر من ابتعادات محلية ضئيلة لا تغير من وحدة الأصل الدموي وتجانس العرق في كثير، وإن تطورت اللغات والألسن ما بين سامي وحامي. ويظل العالم العربي، أو بيت العرب الجغرافي الكبير هو “دوار العرب”، بمعنى الأسرة الموسعة التي تضم عدة أسر نووية أو خلوية. هذه واحدة”.
برغم تعدد المصادر والمراجع التي كنت أنوي الإشارة إليها اقتطافاً وتعليقاً، فإن عمق وجرأة وطرافة ما يورده جمال حمدان في هذا السياق عبر موسوعته الفريدة يدفعني إلى استئذان القارئ لمزيد من الاقتطاف بالغ الدلالة بغض النظر عمّا يمكن أن يتباين من الآراء حوله، ومع ضرورة ألا نقف إزاءه على المدلول المباشر للكلمات، فالمعنى الأجدر بالانتباه هو ذلك الكامن في الثنايا العميقة للسطور الواردة في الاقتطاف التالي دلالةً على ضرورة ألا نستجيب خلال تنقيبنا المستمر عن أصولنا لإغراء الانتقاءات العرقية أو الثقافية أو الأيديولوجية بتأثير هذا الدافع أو ذاك، سواء لنزعات شخصية أو اجتماعية أو سياسية.
وكنت قد أشرت في سياق ليس بعيداً إلى أن أي مفكر مهما يبلغ من الموضوعية لن يسلم تماماً من الخضوع للمؤثرات من حوله خلال نبشه في أصول الانتماء، وجمال حمدان ليس استثناءً بطبيعة الحال من حيث خضوعه بدرجة أو بأخرى لتأثير مرحلة زمانية عايش أوْجها ممثلةً في المدّ القومي العربي الذي بلغ صيته أطرافَ العالم على اختلافها، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على كتابات ورؤى المفكر الكبير، على تباين انعكاسات وتجليات تأثره تراوحاً بين الاتفاق مع التوجه العام والاستقلال في الرؤية القومية على نحو ما بحسب السياق السياسي والاجتماعي وحتى النفسي لصاحبه، ثم تعليقه على أحوال مصر والعالم العربي بعد انحسار ذلك المدّ القومي وارتداد التوجه الوطني إلى ما يشبه النقيض بحسب سنّة وجودية يبدو أنه لا مناص منها.
يكمل حمدان من حيث انتهى الاقتطاف السابق: “أما الثانية فحقيقة تاريخية تؤكد السابقة، وإن كنا نغفل عنها دائماً. نحن نعرف – دينياً وتاريخياً – أن إسماعيل هو أبو العرب العدنانيين، لكنا نعرف أيضاً أنه ابن إبراهيم العراقي من هاجر المصرية، كما نعرف أن العرب العدنانيين هم أبناء إسماعيل من زوجة مصرية أيضاً. وإذا كان لهذا أي معنى أنثروبولوجي، فهل يمكن – أليس كذلك؟ – أن يكون إلا شيئاً واحداً، وهو أن العرب أصلاً أنصاف عراقيين – أنصاف مصريين؟”.
كما أشرنا قبل فقرتين، لا يزال عمق ما قاله حمدان وطرافة تعبيره يغريانني بترك المراجع الأخرى في سياق الحديث عن عروبة مصر جانباً إلى حين – على تعدد تلك المراجع وثراء الكثير منها – للاستزادة مما قاله المفكر الكبير ضمن موسوعته الفريدة في هذا الباب. وموسوعية حمدان لا تتجلى فقط في تنقّلاته العميقة والرشيقة في آن معاً بين الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا وغير ذلك من أبواب الدراسات الاجتماعية، وإنما كذلك في استدعاء معارفه الدينية واللغوية بما يصب مباشرة في سياق الاستدلالات التاريخية والأنثروبولوجية والاجتماعية وحتى الجغرافية. ومع اللغة تحديداً فإنه حتى المعارف الأخرى في فروع العلوم المختلفة تصبّ في الأسلوب اللغوي لحمدان بحيث يمتزج ما هو علمي بصفة عامة مع ما هو تخصصي دقيق، فنرى من التلاعب بالكلمات والصورة البلاغية الطريفة ما يتجاوز الحيل اللغوية البيانية الصرفة إلى حيث يخلع أثره على تأكيد وتعميق النتيجة المرتجاة من الدراسة والتحليل وهي تُلقى في رَوْع القارئ.
يواصل جمال حمدان تعليقاً على “حقيقة تعريب مصر” قائلاً: “فحين التقى العرب بالمصريين وتصاهروا واختلطت دماؤهم، لم يكن ذلك في الحقيقة إلا لقاء أبناء عمومة، أو أخوة في المهجر، أو هو كان لقاء آباء بأبناء، أو أجداد بأحفاد. وقد يكون الأصح أن نقول إعادة لقاء بعد أن باعدت بينهم الصحراء التي استحدثها عصر الجفاف. وإذا كانت قد تبلورت بعض ابتعادات ثانوية، أو تعديلات جسمية مكتسبة على المدى التاريخي والبعد الجغرافي، فقد جاءت الموجة العربية في مصر – كما في غيرها من البلاد العربية – أشبه بعملية “خض” أو تقليب عميق لجزيئات مثالية أصلاً، تعيد مزجها حتى لا تتخثر أو تتحجر. والمد العربي بهذا وبنتائجه يبدو – في معنى – كما لو كان عوداً إلى نمط العصر المطير، حيث نشر العرب مؤقتاً شبكة غطائية متجانسة على وجه المنطقة جميعاً، وصلت ما انقطع، وأعادت تأكيد الوحدة الأولية”.
وفي المقتطف التالي، يبلغ حمدان ذروة تعبيرية رائعة يمتزج من خلالها الديني بالتاريخي بالبيولوجي بالهندسي باللغوي: “وانطلاقاً من هذا مرة أخرى يمكن أن نصفي بعض المتناقضات التي تبدو على السطح في العلاقة بين الفرعونيةوالعروبة.
فإذا صحّت دلالة السند الديني عن الجانب المصري في أصل العرب، فقد عاد العرب بدورهم ليعطوا مصر جانباً عربياً في أصلها. عادوا ليعطوها أبوة جديدة. فالعلاقة الدموية إذن علاقة متبادلة على التعاقب والتناوب، وهي علاقة دائرية أكثر منها خطية، الكل فيها أب وابن على التوالي، والكل فيها في النهاية مضاف ومضاف إليه أكثر منه فاعلاً ومفعولاً به”.
يواصل المفكر الكبير تحليقه في الذروة التعبيرية وهو يوغل في مزج الديني بالتاريخي بالبيولوجي بالهندسي باللغوي، ويضيف إلى كل ذلك ما يبدو تلاعباً ذكياً من خلال المنطق، وربما به: “ولكن لما كان العرب هم الأب الأخير في السلسلة، فإن القول بأن مصر فرعونية أصلاً عربية مصاهرةً قد يكون منطقاً “جاهلياً” – منطق ما قبل الإسلام يعني – ونوعاً من الردة التاريخية تنسب الابن إلى الجد دون أبيه، أو قبل أن تنسبه إلى أبيه. وإنما الأصح أن نقول إن مصر فرعونية بالجد عربية بالأب، وكل من الجد والأب من أصل جد أعلى واحد مشترك. غير أن العرب هنا، وقد غيّروا ثقافة مصر، هم للدقة والتحديد “الأب الاجتماعي” في الدرجة الأولى، وليسوا “الأب البيولوجي” إلا في الدرجة الثانية. حيث كانوا بالضرورة أقلية عددية جداً بالقياس إلى المصريين”.
يوغل بعدها حمدان ببراعة، ليس في اللعب بالكلمات وإنما استزادةً في اللعب الطريف والملهم بالمنطق نفسه على نحو ما أشرنا في الفقرة الماضية: “ولنفس هذه الأسباب يمكن أن نفهم لماذا يقال إن العرب إذا كانوا قد عربوا مصر ثقافياً، فإن مصر قد مصرتهم جنسياً. فأما تعريب مصر ثقافياً فأمر لا يحتاج إلى تفسير. وأما تمصير العرب جنسياً – الذي قد يبدو مناقضاً للأصل الجنسي المشترك الواحد بين الطرفين – فليس في الحقيقة إلا من قبيل تغليب الأغلبية العددية على الأقلية، دون أن يعني فارقاً أساسياً في الأصل والنوع بين الطرفين”.
الخلاصة التي ينتهي إليها المفكر الكبير تبدو توفيقية بما يصل فلا يقطع ويجمع ولا يفرّق، سواء بين الماضي والحاضر بصفة عامة أو بين الفرعونية والعروبة بصفة محدّدة: “نصل من هذا كله، في الخلاصة والمحصلة، إلى الفارق العملي الواقعي والحاسم بين الفرعونية والعروبة. فالفرعونية تنتمي إلى الماضي، بينما العروبة حاضر ماثل واقع. الفرعونية اسم، حيث العروبة فعل. أو إن كان ولا بد، فإن الفرعونية فعل ماض، فيما العروبة فعل مضارع. من ثم ففي حين تمتُّ الفرعونية إلى الماضي، تطلّ العروبة على المستقبل. ومن ثم بالتالي كان مصير مصر عربياً من الناحية السياسية، بمثل ما أن مصير العرب مصري من الناحية الحضارية”.
ليس غريباً بطبيعة الحال أن يكون جمال حمدان منتبهاً بوضوح إلى طبيعة مداخله الخاصة لمحاولة فك شفرة الانتماء المصري، تحديداً بين الفرعونية والعروبة، فها هو يقول: “ثم تبقى أخيراً لمحة طريفة من التاريخ الرياضي، أو ترويض التاريخ تبسط الصورة اللفظية المركبة في معادلة حسابية مباشرة… تاريخ مصري العربي يساوي نحو 35% من تاريخ مصر الفرعوني بحساب الحد الأقصى للأخير، أو نحو 45% بحساب حده الأدنى. أما من تاريخ مصر المكتوب كله، فيكون التاريخ الفرعوني إما 74% كحد أقصى أو 57% كحد أدنى، مقابل 26% للتاريخ العربي. أي أن طول تاريخنا العربي يعادل نحو ثلث إلى نصف تاريخنا الفرعوني تقريباً، ونحو ربع تاريخنا كله. حقاً، إنها – مرة أخرى – فرعونية بالجد، عربية بالأب”.
ذلك تناول عميق لا ريب، وهو بلا ريب أيضاً لا يخلو من براعة المفكر في إثبات ما يريد إثباته منطقياً، بل وبالتلاعب من خلال المنطق وبه على نحو ما رأينا. المهم في سياق الحديث عن العلاقة بين مصر والعرب الانتباه إلى أنها علاقة قامت لقرون طويلة على الاتصال أكثر مما اعتراها الانقطاع، ودرجت على أن تجمع أكثر مما تفرق، ليس من منطلق عاطفي وإنما بحساب واقعي، فالمصير المشترك يعني أساساً أن مجموعة ما تعيش معاً في السراء والضراء وخلال أوقات الوئام والخصام على حد سواء، بحيث لا يستطيع كيان في المجموعة أن ينفصل عن البقية حتى عندما تنازعه إلى توجه مستقل في الانتماء أشواقٌ وتطلعاتٌ تنبش عن مسوّغ لها في أعماق التاريخ وأجواف الجغرافيا ودهاليز المنطق بحثاً عن ذريعة لا تصمد طويلاً على أرض الواقع الذي نضج على نار تراوحت بين الهدوء والاستعار عبر القرون.
الجدير بانتباه دقيق على هذا الصعيد أن العلاقة ليست معادلة أحد طرفيها مصر والطرف الآخر العرب، فالآخرون بدورهم أطراف متعددة، لبعضها – أو لكثير منها – مشادّات في الانتماء والعلاقة مع العروبة تتقاطع أحيانا في الدوافع والغايات مع ما ينشأ في مصر بين حين وآخر من الدهر، ثم تصطدم في الغالب كل تلك المحاولات بشكل أو آخر بصخرة المصير المشترك “على الحلوة والمرة” طوعاً وكرهاً، وذلك أبلغ ما في الانتماء العربي – على اختلاف مرجعياته التاريخية وتعدد مظاهره الحاضرة لكل دولة – من الدلالات والتجليات.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])