في كتابه “الأعمدة السبعة للشخصية المصرية” يرى الدكتور ميلاد حنا أن للشخصية المصرية سبعة أعمدة، أربعة منها ذات مرجعية تاريخية هي: الانتماء الفرعوني والانتماء اليوناني-الروماني والانتماء القبطي والانتماء الإسلامي، وثلاثة منها ذات خصوصية جغرافية: العربي والمرتبط بالبحر المتوسط والإفريقي. الجميل أن الدكتور حنا منفتح الآفاق بشكل واضح في الكتاب وهو يتحدّث عن موضوع معقد كمكونات الشخصية الوطنية والانتماء، وهو موضوع بالغ التعقيد ليس مع الشخصية المصرية فحسب وإنما عند البحث عن مكوّنات الشخصية الوطنية لدى أي من الشعوب في معظم الأحيان، وإن تكن الشخصيات الوطنية تتفاوت بطبيعة الحال من حيث التعقيد عند البحث عن جذورها والمؤثرات الخاصة بكل منها.
سنعرض لبعض تلك الأعمدة بعد قليل، ولكن في البداية يجب أن نقف على ما يجعلنا نحتفي بسعة أفق المؤلف وانفتاحه، وهو ما يتجلى في انتباهه إلى أن الشخصية الوطنية المصرية لا يجب أن يستبد بها أي من مكوناتها أو أعمدتها بصورة منفردة، كما أن هذه المكونات أو الأعمدة ليست متساوية عند النظر إلى تأثير ارتكاز الشخصية المصرية على أيٍّ منها، والأهم هو اختلاف تأثير تلك الأعمدة بحسب كل فئة بل كل فرد. ذلك أمر بالغ الأهمية عند الحديث عن الشخصية الوطنية في أي مكان، فإجمال ملامح عامة للشخصية الوطنية لا يلغي الخصوصيات الكامنة في الفئات المختلفة للمجتمع، تماماً كما لا يلغي خصوصية كل فرد، والأهم أن الانتماء ليس حقيقة مطلقة قدر ما هو إحساس يتغير في الفرد الواحد بتغير مراحل حياته، ويتغير في الأمة بصفة عامة بتغير التوجهات السياسية.
يقول الدكتور ميلاد حنا، نقلاً عن طبعة “الأعمدة السبعة للشخصية المصرية” الصادرة عن دار نهضة مصر بالقاهرة سنة 1999: “إن اعتقادي هو أن هذه الانتماءات أو الأعمدة السبعة داخلة في التركيبة الإنسانية لكل مصري، ولكنها – منطقياً وطبيعياً – ليست أعمدة متساوية في الطول والقطر والمتانة، وإن إحساس المصري بهذه الانتماءات يختلف من شخص إلى آخر، بل يختلف داخل نفس الفرد من مرحلة إلى أخرى، فلدى البعض منا إحساس بأهمية الانتماء إلى الفراعنة، ويشعر هؤلاء أن ذلك يميزنا عن المجتمعات الإنسانية الأخرى، ويوفر لنا الشعور بخصوصية الانتماء إلى من ابتكروا هذه الحضارة القديمة والتي كانت منارة ومركز إشعاع في العالم القديم… على أن كثيرين يتصورون أن الاهتمام بالفراعنة هو عودة للوثنية، ويتعارض مع الانتماء إلى الإسلام أو المسيحية. وقد يرى البعض أن الانتماء العربي هو الأساس… ومن المؤكد أن المتدينين يؤثرون ويقدمون الانتماء الديني – سواء الإسلام أو المسيحية – على أي انتماء آخر… وأعرف الكثيرين ممن يقاومون انتماء مصر إلى حوض البحر المتوسط من منطلق أن ذلك يؤدي إلى التغريب أي تقريب مصر من الغرب وحضارته (يشير المؤلف في مكان لاحق مستقل من الكتاب إلى الذين ناصروا الاتجاه في الانتماء نحو المتوسط ومنهم طه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض على سبيل المثال)… وأتصور أن الأعمدة أي الانتماءات التي لا تجد من يتحمس لها أو عليها هما العامود اليوناني-الروماني وكذلك العامود الإفريقي”.
هنا ربما تجدر الإشارة من باب التذكير بأن طه حسين عندما تحمس إلى انتماء مصر إلى البحر المتوسط وإلى الغرب بصفة عامة اتخذ التأثير اليوناني-الروماني مدخلاً أساساً لذلك التوجه في الانتماء. أما الانتماء الإفريقي، فهو بالفعل ضعيف الأثر في المكوّن المصري بحيث يصدق فيه ما يقوله الدكتور حنا: “أما الانتماء إلى قارة إفريقيا… فهو انتماء ليس له صاحب، وليس له من يدافع عنه، وإن كان جمال عبد الناصر هو أول من أشار واهتم به، فقد جاء ذكر ذلك في كتابه فلسفة الثورة”. وقد أشرنا في مقام قريب إلى أن الانتماء الإفريقي هو تحدّ جديد برع فيه المصريون الآن أكثر مما برع بشأنه أسلافهم في أي وقت مضى من تاريخهم، وذلك نزولاً على حكم الضرورة التي فرضتها طبيعة التكوينات السياسية في العصر الحديث على امتداد العالم.
يبرع الدكتور حنا كذلك حين يعتبر الانتماء وجهة نظر يقدمها كل مفكر بحسب رؤيته الشخصية التي تستجيب بدورها بطبيعة الحال لما حولها من المؤثرات على اختلافها، بل وتتغير على امتداد حياة المفكر نفسه. يمكن التماس تلك الرحابة في الرؤية في المقتطف التالي من الكتاب: “ومن بين هذه الأعمدة أو الانتماءات السبع للشخصية المصرية – كما أراها – اختار جمال حمدان من الانتماءات التاريخية الانتماء الفرعوني، ومن الانتماءات الجغرافية الانتماء العربي، ثم مزج بينهما في عبارات بليغة فيقول: فرعونية هي بالجد ولكنها عربية بالأب، غير أن كلا من الأب والجد من أصل مشترك ومن جد أعلى واحد، فعلاقات القرابة والنسب متبادلة وسابقة للإسلام بل وللتاريخ”. وفي الفقرة التي قبلها مباشرة يشير ميلاد حنا إلى رؤية جمال حمدان عن الانتماء الذي يمتزج فيه التاريخي بالجغرافي بالأنثروبولوجي: “وقد عبر د. جمال حمدان في مؤلفه القيم شخصية مصر – دراسة في عبقرية المكان – وبأسلوبه الفذ عن ذلك: فمصر إن تكن إفريقية بأرضها ومائها، إلا أنها قوقازية أوروبية بجنسها ودمائها، والمصريون بهذا المعنى أنصاف أو أشباه أوروبيين. هي إذن قطعة من إفريقيا، غير أنها إلى ذلك أسيوية التوجه والتاريخ والتأثير والمصير، إنها بآسيا وإليها. وفي المحصلة الصافية فإن مصر نصف أوروبية، ثلث أسيوية، سدس إفريقية، وفي داخلها تبدأ أوروبا عند الإسكندرية وآسيا عند القاهرة وإفريقيا عند أسوان”.
دمج الدكتور حنا اليونانية والرومانية في عمود واحد، وكان بالإمكان دمج العربية والإسلام في عمود واحد كذلك، ولكن فصل العمودين العربي والإسلامي – بعيداً عن دافع المؤلف إلى تقسيم الأعمدة استناداً إلى مرجعيات تاريخية وأخرى جغرافية – أتاح مجالاً أوسع للعمود العربي لاستيعاب المكونين القبطي والإسلامي ضمن تأثيراته المتداخلة بعمق في المكون المصري، وذلك رغم أسبقية المكون القبطي للمكون العربي، ورغم تزامن المكون الإسلامي والمكون العربي.
وبرغم أن أبرز ما يتداعى إلى الأذهان عند الحديث عن المكون القطبي يتجلّى إما في حقبة تاريخية قديمة أو فئة عريضة من المجتمع ينظر إليها على أنها أقلية، فإن تأثير المكون القبطي هو على الأرجح أعمق امتداداً في الوجدان المصري، ليس فقط من خلال بضع عادات حاضرة ترجع إلى جذور قبطية يمكن تحديدها بوضوح، وإنما تجاوزاً إلى الممتزج في الوجدان المصري مما يصعب فض الاشتباك حول أصوله من العادات والتقاليد المتجذرة بتحليلها إلى عواملها الأولية ثقافياً وحتى عقائدياً، خاصة باعتبار الأصول المشتركة للمسيحية والإسلام.
لا يخلو الأمر من الحدة والحساسية على امتداد التاريخ المصري، ولكن أعظم تجليات تأثير المكون القطبي السمحة تمثل في الانتقال السلس إلى المكون الإسلامي العربي، وذلك امتداداً لسلاسة الانتقال من حقبة إلى أخرى عبر التاريخ المصري، أو – باستلهام تشبيه ميلاد حنا – بناء عمود إلى جوار آخر على امتداد البيت المصري الكبير. وسلاسة الانتقال لا تعني بالضرورة أن عملية “التسليم والتسلّم” قد تمت بين كل مرحلة وأخرى دون مواجهات حادة، قدر ما تعني أنها كانت تنتهي في كل مرة بما لا يطمس معالم المرحلة السابقة. وباستلهام تشبيه الدكتور حنا مجدداً، فإن كل عمود جديد لم يكن يقوم تماماً على أنقاض العمود الذي قبله، وإنما على الأرجح إلى جواره وإن غطّى عليه لحين من الدهر بدرجة أو بأخرى. والأهم أنه على المدى الطويل بدت تلك الأعمدة كأنها قابلة لأن يعود بعض ما اندثر من أجزائها لينهض من جديد على نحو ما. تلك إذن من أهم خصائص الشخصية المصرية عبر الزمان، فأي من جوانب/أركان/أعمدة ماضيها مهما يكن بعيداً فإنه يبدو في حالة استنفار تهيؤاً للاستلهام في أية لحظة بحيث تُحقن جرعات منه فتسري بسلاسة وسلام في شرايين الحاضر.
يقول أفريد ج. بتلر Alfred J. Butler في كتابه الذي عرضنا له سابقاً “فتح العرب لمصر” The Arab Conquest of Egypt ، النسخة العربية عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة سنة 2019، يقول: “كان العرب رجال حرب وسيف، لم يتعودوا حكم البلاد ولم يحذقوا فنونه، ولم يكن بينهم نظام معروف قد يتخذونه في مصر أو يدخلون منه شيئاً في إدارة أمورها، ومصر عريقة في الحضارة ذات نظام مقرر مشعب؛ بيد أن العرب كانوا أهل ذكاء وفهم سريع، فكان في استطاعتهم أن يتناولوا أعنّة الحكم التي وجدوها دونهم ويديروا بها الأمور على ما كانت سائرة عليه من قبلهم، وقد بينّا فيما سلف أن بعض أكابر حكام الروم قد بقوا في أعمالهم، ولعل طائفة كبيرة من عامة الروم ساروا في ذلك على منهاجهم، غير أنه لا بد قد خلت أعمال كثيرة إذ نزح عمالها الروم الذين لم يرضوا أن يكونوا من رعية الإسلام، فجعل العرب في مكانهم عمالاً من القبط. فما مرّ إلا قليل زمنٍ حتى صار عمّال الدولة يكادون جميعاً يكونون من المسيحيين”.
تلك لمحة خاطفة عن اندماج المكون القبطي في المكون الإسلامي العربي الجديد حينها، بما يعكس سلاسة الاندماج، ليس بالمعني الذي ينفي وجود الصدام الذي يمكن أن يكون حادّا في بعض الأحيان، وإنما بما يشير كما أسلفنا إلى الاستقرار في المرحلة الجديدة دون انقطاع عن الإفادة مما سبقها، وهي ليست افادة منتقاة باختصار مخلّ وإنما إفادة عميقة تكاد تأخذ كل ما سبق ثم تضفي عليه لمستها الخاصة التي تصطبغ في النهاية بالصبغة المصرية شديدة الخصوصية.
كل ذلك من الجيد أن ينعكس على دراسات الشخصية المصرية، وعندما يتعلق الأمر بانفتاح الرؤية حول الانتماء، ومع تأكيد إمكانية – بل ضرورة -الاختلاف، يبدو ميلاد حنا في رؤيته للانتماء المصري شديد الانفتاح، فهو إذا كان قد حدد أعمدة سبعة تنهض عليها الشخصية الوطنية المصرية، فإنه أطلق العنان لمؤثرات الانتماء الفردية لتبلغ في العدد عشرات الانتماءات مشيراً إلى بعضها على سبيل المثال: الانتماء الأسري، الانتماء الدراسي، الانتماء الإقليمي الجغرافي (للحي أو القرية أو المدينة أو المحافظة)، الانتماء الطبقي، الانتماء المهني/النقابي، الانتماء الأيديولوجي/السياسي، الانتماء الديني، الانتماء الجنسي/النوعي، الانتماء العرقي/الإثني.
وهكذا فإن ميلاد حنا كان بارعاً ليس ابتداءً بسبب تحديده للأعمدة السبعة للشخصية الوطنية من جغرافيا وتاريخ مصر، فذلك مما عرض له كثيرون بطريقة أو بأخرى، ولكن رؤية حنّا تميّزت بالانتباه الدقيق إلى أن اختلاف تأثير تلك الأعمدة/الأركان هو أمر طبيعي يعتمد على المرحلة التاريخية وعلى الحقبة السياسية، والأهم يعتمد على طبيعة كل فرد مستجيباً بدوره للمؤثرات المختلفة من حوله منذ الولادة وعلى امتداد مراحل نشأته وتكوينه، وذلك بما يخرج بالانتماء الفردي من مثالية الارتكاز على بضعة أعمدة تاريخية وجغرافية إلى واقعية ديناميكية من الخير أن تنفتح على كل أفق متاح ولا تدع مكوّناً واحداً مما أثّر فيها – مهما يكن عظيماً – ينفرد بها في الانتماء.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])