محمد طارق
في فيلمها الروائي الطويل الثاني “أبو صدام” تدخلنا نادين خان صاحبة هرج ومرج الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان دبي السينمائي عام 2012 إلى عالم الرجولة الهشة من خلال فيلم طريق يتحرك بشخصيته الرئيسية يجمع بين رجل ضخم الجثة صلف الملامح (محمد ممدوح) ومراهق ضئيل الجسد (أحمد داش) يتشاركان رحلة لتوصيل حمولة على طريق صحراوي سريع.
الفيلم الذي عُرض عالميًا لأول مرة مساء الأمس في مهرجان القاهرة السينمائي، يبدأ كفيلم رحلة تبدو عليه ملامح الأفلام التجارية المسلية وينتهي حارمًا المشاهد من التقاط أنفاسه من هول ما سيراه. فيلم عن رجل هش يسعى لإثبات رجولته بأي طريقة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالنساء، فيدخل نفسه ورفيق رحلته في جحيم لا نهائي، رافضًا الاعتراف بضعفه وهشاشته.
ملك الطريق
داخل مقصورة شاحنة ضخمة، نبدأ في التعرف على أبو صدام وتفاصيل شخصيته، رجل في أواخر الثلاثينيات ضخم الجسد متعرق ذو قصة شعر حادة وشعر مثبت جيدًا يُعرف ذاته بأنه “ملك الطريق” – ذلك الوصف الذي سيتكرر كثيرًا على مدار الفيلم- يتحدث على الهاتف من خلال سماعات بلوتوث موضحًا لمن يهاتفه أنه لا يجب أن يعتذر وأن سيارته قد خدشت وهذا بالأمر الجلل بالنسبة له، ذلك الخدش الصغير على باب السيارة الضخمة الذي سيبدو فيما بعد كجرح غائر في نفسية ذلك الرجل الذي يتصور أن لا وجود لرجل مثله، مهما كانت عاديته!
في نفس المقصورة وعلى الجانب الآخر نجد حسن “التباع” المراهق صاحب قصة الشعر رديئة التنفيذ ذات الخطوط المفرغة الذي يخوض الرحلة مع أبو صدام بحثًا عن الرزق، ويتسلى بصنع فيديوهات على تيك توك أثناء الاستراحات أو محادثة جنسية مع حبيبة، ليبدو على النقيض من رفيق رحلته، شاب عادي يبحث عن الرزق السريع والمتعة في رحلته. أثناء إحدى
الاستراحات على الطريق يحذره صديق من أبو صدام ومن صلافته وعنفه، ويحدثه عن أنه كان متزوجًا من امرأة من بلدهم ولم ينجب منها، فيسأله “امال مين صدام؟” فيخبره أن ذلك اسم العائلة. يثار فضول حسن إثر التحذيرات والحكايات ويبدأ في جذب أطراف الحديث مع أبو صدام شيئًا فشيئًا لمعرفة من هو ولم كان اختفاءه من عالم النقل الثقيل وعودته حاليًا، لكن الآخر يفصح تدريجيًا على مدار الفيلم بالقول أو بالفعل عن كل الإجابات الشافية لأسئلة المراهق الصغير.
نموذجين من الرجال يجلسان في مقصورة سيارة نقل، التي تعبر في عالم السائقين عمومًا عن أعلى مرتبة ممكنة، ملوك النقل الثقيل، الأعلى أجرًا والمتباهين برخص قيادتهم ذات الشروط الصعبة والمسؤوليات الصعبة الملقاة على عاتقهم، النموذج الأول (أبو صدام) يعبر عن ذكر مهيمن (ألفا) في مقابل النموذج الثاني (حسن) المعبر عن ذكر تابع (بيتا)، والذين يخوضان رحلة في عالم يحكمه الرجال بالكامل ونادرًا ما تظهر فيه النساء فعليًا، لكن حضورهن على كلا من الشخصيتين واضح الأثر.
خدوش صغيرة في جسد فيل كبير
أول المواقف التي يتعرض لها الثنائي على الطريق، هو مرور امرأة بسيارتها الفارهة وراء الشاحنة، مع أبواق غاضبة توضح رغبتها في تخطي المقطورة، يتخيلها السائق رجل عنيف في البداية لكن بعد مرورها بجانبه وبدء مضايقته بإبطاء سيارتها أمامه، تنتابه حالة غريبة من الغضب، تبدو كطنين في أذنه يصرخ “هل ستدع تلك الأنثى تنال منك؟”، يتحرك بعنف شديد ثم يهدأ بعد فترة من كلام حسن معه عن النساء التي رآهن على الطريق وعن خبراته مع النساء عامة، فيبدأ أبو صدام في استعادة خيالاته وثقته بنفسه أمام كل ذلك الإعجاب من حسن.
منذ تلك النقطة، ومع التوغل في أعماق الفيلم، يبدأ تأثير النساء في الظهور تدريجيًا، خمسة نساء، ثلاث منهن يظهر تأثيرهن في خلفية الأحداث: الأولى التي سمع حسن عنها من صديقه، الثانية التي يسميها أبو صدام “البيت” على هاتفه المحمول وتلك المرأة التي قابلها على طريق ساحلي بينما تخرج عارية من البحر منذ سنوات وقضى معها ثلاث ساعات من ممارسة الحب (في مشهد مصور بشكل يشبه الأحلام مع موسيقى غرائبية ومرأة بدينة ذات عيون مليئة بالكحل تبدو كنساء فيلليني في “مدينة النساء”) في مقابل اثنتين تظهران بشكل فعلي: المرأة الثرية صاحبة السيارة والراقصة الشعبية التي يقابلها أبو صدام في فرح أنسباءه.
نرى مع ثلاثة من هؤلاء النساء، محاولات أبو صدام الفاشلة في فرض “رجولته” المتخيلة، فمع صاحبة السيارة يتوقف خصيصًا في محطة بنزين ليجرح سيارتها بمفتاح منتقمًا من معاندتها له على الطريق، ومع زوجته التي يوجه لها الإهانات المتتالية حارمًا إياها من حضور فرح قريبة لها، والراقصة التي يحاول اغتصابها في المقصورة بعد ممارسته للحب معها وسؤاله لها عن مدى فحولته، فتخبره بأنه رجل عادي وتلمح لعدم استمتاعها، وبينما يحاول إجبارها تضربه وتهرب من السيارة مع وابل من الشتائم يزيد من غضبه وإحباطه تجاه صورته الذهنية المتخيلة، بينما المرة الرابعة، وهي المتخيلة في أغلب الأحوال، فهو ينجح في خوض تجربة جنس حيوانية مع المرأة الفيللينية وترويضها، لينتصر ولو لمرة لما يتخيله عن ذاته.
في مقابل هؤلاء النساء، وعلى مدار الرحلة، يقابل أبو صدام العديد من الرجال الذين يبدون أقل صلافة، لكنهم أكثر قوة منه، وينتج عن كل لقاء معهم طرق على مدى ضعفه، بداية من صاحب الشاحنة الذي يطالبه بالاعتذار للمعلم غالب (الذي جرح أحد صبيته شاحنة أبو صدام) وأنسباؤه الذين يحذرونه بالتهديد والترغيب من ضرب زوجته، مرورًا بالضابط الذي يقوم بتكديره في كمين لمدة طويلة جراء ما ارتكبه من مضايقات على الطريق، كل ذلك يطرق على رجولته الهشة، ويزيده إصرارًا على إثبات رجولته بأي ثمن، والذهاب إلى النهاية الصادمة الخاطفة للأنفاس.
نيون وظلال وطرق خالية
على المستوى البصري للفيلم، ينجح الثنائي عبد السلام موسى (مدير التصوير) وعاصم علي (مهندس الديكور) في خلق عوالم بصرية مميزة، بدءًا من تصوير معظم الفيلم داخل المقصورة مع استخدام للقطات وجهة نظر الشخص الثالث (التي تشبه عوالم ألعاب الفيديو في بعض اللقطات)، وعناصر الديكور المستخدمة داخل المقصورة وأبرزها اللعبة الصفراء (رأس صفراء ضاحك مثبت على سوستة) التي تظهر على ملصق الفيلم الرسمي، والتي تعبر عن مدى هشاشة الشخصية التي تهتز لأصغر التفاصيل وأتفهها.
إلى جانب ذلك، هناك مشهد الحلم المصور بشكل غرائبي على البحر بلقطة وجهة النظر الأولى للبطل، ومشهد الفرح الشعبي والليل الذي تظهر فيه أضواء النيون الخاصة بالطريق أو بالشاحنة ذاتها، وهي أضواء معبرة عن مدى زيف تلك التخيلات “الرجولية”، إضافة إلى الظلال الثقيلة التي تجعل من الجو العام للفيلم (خاصة في مشاهد الليل) مشابه لأفلام الـ”نيو نوار”، والطرق الخالية والمقابر وحتى الغرفة الجانبية للفرح كلها تؤكد عزلة هذه الشخصية وعيشها في أوهامها، وأخيرًا، ذلك النيون الذي ينير الشاحنة في نهايات الفيلم ذو اللون الأخضر المشؤوم المشابه لأخضر “فيرتيجو” لهيتشكوك.
“أبو صدام” يذكرك بأفلام البطل المضاد العنيف ومنها “سائق التاكسي” لمارتن سكورسيزي، وبـ”البريق” لستانلي كوبريك في طريقة تدرج أحداثه وكشفها، دون مساس بأصالة ومصرية تلك الحكاية على مستوى اختيار مواقع التصوير، الشاحنة أو الشخصيات والأحداث. عمل سيثير الكثير من الحديث حول شخصيته والسيناريو المدفوع بها لا بقصة محددة، لكنه يظل فخرًا لصناعة السينما المصرية الحديثة وأفضل ختام لعام شهد العديد من النجاحات لها.