بحثت طويلاً في العديد من المراجع العربية والأجنبية الأصل عن بعض ما يمكن أن يكون ذا صلة للإشارة إليه في سياق هذا الحديث، وذلك قبل أن أستدرك آخر المطاف أن عنوان كتاب الدكتور محمود عودة – الذي أشرت إليه في أكثر من سياق سابق – يكاد يتطابق مع عنوان هذا المقال قبل أن أعدّله إلى ما أصبح عليه الآن. يبحث الدكتور عودة خلال كتابه الصادر عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بالقاهرة سنة 2007 عن “الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية” وذلك من خلال عنوان رئيس هو “التكيف والمقاومة”.
“التكيّف” كما هو واضح كلمة أكثر “دبلوماسية”، ولكنها موافقة لما يقتضيه سياقها كما ورد في دراسة الدكتور عودة. غير أننا إذا استبدلنا بها كلمة أكثر مباشرة ومواجهة مثل “الإذعان” – التي كانت في عنوان هذا المقال قبل تعديله – لن يختلف الأمر جوهرياً، ولكننا سنقف بوضوح أشد على ما قد يبدو نقيضاً للمتوقع، فما سيتجلى لنا على الأرجح هو صلابة الشخصية المصرية في المحافظة على كيانها وقوامها حتى وهي مذعنة، بل حتى وهي تمرّ بأقصى حالات الإذعان التي كانت تتطلّبها ضرورات التحوّل الحاد من مرحلة إلى مرحلة مناقضة، وهو ما حدث مراراً وتكراراً خلال تاريخها الطويل بأشكال ليست متطابقة بطبيعة الحال ولكنها متشابهة في الغالب، وذلك بما يعكس طبيعة شخصية وطنية شديدة الإلحاح في التمسك بخصوصيتها على اختلاف الظروف وبصرف البصر عن مدى حدّتها، أو ربما – لمزيد من الدقة – بدافع حدّة تلك الظروف.
يقول الدكتور محمود عودة: “طور المصري عبر تاريخه، الذي اتسم غالباً بالمصاعب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ميكانزماته وآلياته الخاصة للتكيف مع الصعوبات وأشكال القهر المتعددة، كما طور في الوقت ذاته آلياته الخاصة للمقاومة، وهي آليات شكلت في مجملها وفي تفاعلاتها الداخلية والخارجية جهازه السيكولوجي وبنيته العقلية التي تتبدى في مجموعة من الخصائص والصفات التي أصبحت لصيقة بشخصيته. ورغم أن آليات التكيف كانت هي الأكثر بروزاً عبر التاريخ، وما تزال إلى حد كبير، فإن ذلك لم ينف أبداً – وعبر التاريخ أيضاً – أشكالاً من آليات المقاومة التي اتخذت أشكالاً شعبية تتفاوت بين الإيجابية والسلبية واللامبالاة. ومن الجدير بالذكر هنا أن آليات التكيف قد تختلط في أحيان كثيرة بآليات المقاومة بحيث يصعب التمييز بينهما، ومن ثم يصعب تمييز خاصية شخصية سيكولوجية معينة، وتعيين موقفها ووضعها، وما إذا كانت خاصية تكيفية أو آلية للمعارضة والمقاومة”.
أهم ما في هذا المقتطف هو إشارة الدكتور عودة إلى اختلاط آليات التكيف بآليات المقاومة في أحيان كثيرة بحيث يعصب التمييز بين الآليتين، والحق أن هذا الاختلاط يصل في الواقع – وفي كثير من الأحيان أيضاً – إلى درجة الامتزاج بحيث يصعب الفصل بين الآليتين، أو ربما – بتعبير أكثر دقة – يصعب فض الاشتباك بين مكونات الآليتين ومعرفة لصالح أية آلية يعمل مكون ما في لحظة بعينها.
من الدقيق كذلك إشارة الدكتور محمود عودة إلى أن أشكال آليات المقاومة (الشعبية) قد تفاوتت بين الإيجابية والسلبية واللامبالاة، وهذا التفاوت أمر هام سنقف عليه لاحقاً ببعض التفصيل ونحن نقارنه بالمقاومة التي اتخذت شكلاً واحداً في الغالب لدى كثير من الأمم الأخرى.
يواصل الدكتور عودة: “طور المصري منذ فجر تاريخه مجموعة من القناعات والتصورات والخصائص والسمات شكلت – رغم أي حكم قيمي عليها – نسقاً أساسياً من أنساق تكيفه مع الظروف واندماجه معها، ومن ثم استمراره في البقاء والوجود، ومن أبرز تلك الخصائص ما يلي: أ- التصور الهرمي للمجتمع والكون، ب- الازدواجية عبر أصعدة مختلفة، ج- السلبية والأنامالية، د- التحايل على علاقات القهر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، هـ- التصورات الميتافيزيقية والقناعات الخرافية والشعبية”.
الجملة الاعتراضية “رغم أي حكم قيمي عليها” مهمة للغاية، فالفكرة هنا ليست الحكم على صواب أو خطأ هذه الآلية أو مظاهرها من الناحية الأخلاقية، هذا إذا أمكن أصلاً البتّ بحكم قاطع على هذا الصعيد، وذلك مع ضرورة تذكّر أن الشخصية المصرية قد طوّرت هذه الآليات في الغالب في مواجهة قوى أجنبية كان كل منها يسعى – بدرجة أو بأخرى – إلى طمس الهوية المصرية واستبدال هوية أخرى بها، وحتى عندما كانت الشخصية المصرية تمارس بعض تلك الآليات في مواجهة سلطة محلية فإنها كانت ممارسة جماهيرية في مواجهة قهر اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، حتى إذا لم يكن ذلك القهر يستهدف استبدال هوية أجنبية بالهوية الوطنية، وهو أيضاً ما انتبه إليه الدكتور عودة ببراعة وهو يشير إلى أشكال تلك الآليات بوصفها أشكالاً “شعبية”.
لا يستعرض الدكتور محمود عودة آليات المقاومة بنفس التفصيل الذي استعرض من خلاله آليات التكيف، مشيراً في بداية حديثه عن آليات المقاومة إلى ما ذكره من قبل حول “صعوبة التمييز بين آليات التكيف وآليات المقاومة على الصعيد العملي في كثير من الأحيان و(إلى) اختلاط هذه الآليات وازدواجية أدوارها إلى المدى الذي يمكن فيه اعتبار آليات التكيف في ذاتها جزءاً من آليات المقاومة أيضاً، بل هكذا نظر إليها الكثير من الكتّاب والمحللين، بوصفها مقاومة سلبية”. وقد استشهد الدكتور عودة برؤية الدكتور سيد عويس حول “الأشكال الشعبية لمقاومة الظلم والعسف”، حيث عدّ الدكتور عويس “عشرة متنفسات أو طرق يلجأ أفراد المجتمع المصري إليها لمواجهة سوء الحظ ومختلف أنواع الظلم، وهذه المتنفسات تتراوح بين اللامبالاة والنفاق والتهكم وبين الهجرة والتمرد والثورة”.
مقارنة مع كثير مما حولها من الشخصيات الوطنية، وعلى نحو ما ألمحنا ورأينا فيما مضى، لم تكن استجابات الشخصية المصرية خلال المفاصل التاريخية – انتقالاً من مرحلة في الحكم إلى أخرى – تخلو من المقاومة العنيفة، لكن عندما تثبت أركان المرحلة الجديدة في الحكم لا تستجيب الشخصية المصرية بالإذعان بما يفيد الاستسلام والتقاعس عن المشاركة وإنما بالعمل البنّاء في ظلال العهد الجديد، وهذا من أبرز خصائص الشخصية المصرية التي كفلت لحضارتها الازدهار عبر الزمان، ومن قبل كفلت للشخصية المصرية نفسها انتقال سماتها بثبات عبر الأجيال.
الاستجابة بالإذعان لأية سلطة جديدة، سواء أجنبية أو محلية، هو قدَر لا مفر منه لأية شخصية وطنية على مرّ العصور. ولكن بعض الشخصيات الوطنية يميل إلى أن يتبنّى السلبية شبه المطلقة تجاه السلطة القاهرة – ممثلة في التقاعس عن العمل وعن المشاركة في بناء الدولة الجديدة – بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة، وهو أمر طبيعي لا غضاضة منه شريطة ألا يطول إذا كانت السلطة الجديدة من القوة بحيث تستمر لأمد طويل. الشخصية المصرية على هذا الصعيد ظلت من أبرع الشخصيات الوطنية التي عرفت كيف تستجيب لكل السلطات التي توالت عليها عبر الزمان بمزيج فريد من المرونة المقاوِمة أو المقاوَمة المرنة، وذلك ابتداءً بالمواجهة المباشرة التي لا تخلو من القوة والحدة بحسب ما يتسنّى لها، ثم السلبية العميقة – وليست المطلقة – تعبيراً عن عدم الإقرار بمنح الآخر التسليمَ والإذعان كما لو كان هدية يسيرة المنال، وصولاً آخر المطاف إلى المشاركة الفعالة في العمل بما يعكس الحرص على استمرار الحياة المزدهرة في الدولة ويصب في النهاية في ماعون الحضارة المصرية العظيم الذي ظل على مرّ الزمان في مصر ولم يتسنّ لأية سلطة – مهما تكن طبيعتها وأمد سطوتها – أن تأخذ معها شيئاً ذا بال منه وترحل به إلى أي مكان.