ليس غريباً أن تنطوي استجابات الشخصية المصرية تجاه المحافظة والانفتاح على مفارقة وقف أمامها بعض من قرؤوا الشخصية المصرية خلال فترات مختلفة من تاريخها. ورغم أن مبعث المفارقة هو تأرجح استجابات الشخصية المصرية بين طرفي النقيض، فإن تفسير ذلك يمكن التماسه في أكثر من مبرر عوضاً عن التعجّل في وصف تلك الاستجابات بالتناقض الصريح.
تشكّل المفاهيم المسبّقة لأي باحث أول بواعث تهويل المفارقة التي قد تكون بسيطة أو حتى اعتيادية أمام متباينة المحافظة والانفتاح، وأرجو أن يجوز نعت المفارقة بكونها اعتيادية استناداً إلى ما لا يسلم منه أي كائن من التناقضات على اختلاف أشكالها بدرجة أو بأخرى. وقد وقفنا في مقام مستقل على سطوة المفاهيم المسبّقة بصفة عامة، وعلى تلك التي لا يمكن أن يكون قد سلم من آثارها أي ممن تعرضوا للشخصية المصرية بالدراسة بصفة خاصة، فرأينا في ذلك المقام أنه “لن يكون سيل الآراء الجارف حول الشخصية المصرية عبر العصور إلا مدفوعاً بقوى مفاهيم وانطباعات مسبقة مختلفة الأصول والمرجعيات، وذلك بغض النظر عن طبيعة تلك الآراء من حيث الانحياز لصالح الشخصية المصرية أو ضدها، ابتداءً بهيرودوت ومروراً – دون ترتيب زماني – بأبي الصلت والمسعودي والمقريزي وجاسبار دي شابرول وكلوت بك والجبرتي وإدوارد وليام لين وسيد عويس وجمال حمدان وحامد عمار وميلاد حنا. وسيلاحظ القارئ تداخل الأسماء غير المصرية والمصرية من أصول عربية والمصرية الخالصة في القائمة المختصرة جداً لمن طالعوا الشخصية المصرية عبر الزمان، وهو تداخل أملته طبيعة التناول التي اتسمت عموماً بالمكاشفة وأحياناً المصادمة والغضب وليس التمجيد الأجوف بحال، سواءٌ من قبل الأجانب أو العرب أو المصريين وهم يتعرضون بالتشريح لواحدة من أكثر الشخصيات الوطنية ثراءً وإثارة من كل الوجوه”.
أظهرُ تجليات آثار المفاهيم المسبقة أنها تقود الباحث إلى التركيز على جانب بعينه أو بضعة جوانب وتعلي من تأثيرها أو تقلله مقابل غيرها، ما يقودنا إلى عامل آخر على هذا الصعيد – يمكن النظر إليه بصورة موزاية لعامل المفاهيم المسبقة – وهو استخلاص الحكم من فئة أو فئات بعينها على حساب مجمل الفئات المكوّنة للمجتمع الكبير موضوع الدراسة. وعند الحديث عن المحافظة والانفتاح تحديداً يبرز تأثير هذا العامل بقوة، فبرغم ما أشرنا إليه من “اعتيادية” تواجد وتعايش بعض المتناقضات داخل أي كائن بدرجة أو بأخرى، وما يستتبعه ذلك من إمكانية تأرجح أية فئة داخل المجتمع المصري بين المحافظة والانفتاح بشكل أو آخر، فإن الفئات شديدة المحافظة في المجتمع المصري هي لا ريب مختلفة تماماً عن الفئات شديدة الانفتاح. وعليه، فليس غريباً أن من ينعت الشخصية المصرية بالانفتاح الشديد يكون قد خلص إلى حكمه متأثراً بالتركيز على الفئات شديدة الانفتاح، تماماً مثلما أن من يخلص إلى أن الشخصية المصرية شديدة المحافظة يفعل ذلك وعيناه منجذبتان إلى الفئات المحافظة بوضوح من المجتمع نفسه.
وكجزء ربما من المفاهيم المسبقة، تطلّ خلفية الباحث الفكرية والاجتماعية والنفسية بوصفها عاملاً بالغ التأثير على هذا الصعيد، فمن يميل إلى المحافظة الشديدة يقلقه الانفتاح بأي قدر بحيث يرى بعضه فادحاً، ومن يتطلّع إلى الانفتاح العظيم تزعجه المحافظة بحيث يرى يسيرَها استفحالاً.
المسألة معقدة على كل حال، فالذين قرأوا الشخصية المصرية تباينوا ليس فقط في حكمهم العام عليها من حيث المحافظة والانفتاح وإنما في استجاباتهم الشخصية تجاه الأحكام التي يطلقونها هم أنفسهم. وقد يكون إمعاناً في المفارقة أن يبدو بعض الكتاب والمؤرخين العرب والمسلمين، بل والمصريين، أكثر إنزعاجاً في بعض الأحيان من كثير من المؤرخين والرحالة والمفكرين الأجانب الذي طالعوا الشخصية المصرية من خلفية ثقافية مختلفة – وربما مناقضة – قياساً بتلك التي تصدر عنها الشخصية المصرية من حيث الطباع وردود الأفعال. وعليه – ورغم ما اشتهر عنه من موضوعية – فإننا نقف على سبيل المثال على نبرة لا يمكن أن توصف بالهدوء فيما يخص بعض استجابات تقي الدين المقريزي لأنماط سلوك الشخصية المصرية، سواء فيما يتعلق بالمحافظة والانفتاح أو في غير ذلك من السياقات ذات الصلة عبر مؤلفه المعروف “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، وذلك بما يوازي أحياناً في حدّة الانفعال نبرة جاسبار دي شابرول المنسربة فيما بين أيدينا من إفادته في وصف مصر عبر “المصريون المحدثون”.
سيكون من السهل إذن وصف مصر أو أي بلد آخر بكونه بلد المتناقضات لمجرد أن ضروباً متناقضة من البشر ومن أنماط العيش يمكن التماسها فيه، فالتناقض كما أشرنا يكاد يشمل كل كائن في الوجود بصورة أو بأخرى، بل يكاد يكون أساس الحياة الذي تنهض عليه صراعاتُها المعقدة. ولكن عندما يبلغ البلد من ثراء الحضارة مبلغ مصر، وتبلغ الأمة من الحيوية الصاخبة مبلغ المصريين، تغدو فرص الوقوع على ما هو متناقض من أنماط الحياة مضاعفةً بسبب ذلك الثراء وتلك الحيوية الصاخبة ابتداءً قبل أن يكون ذلك بسبب حالة بارزة من خصوصية تناقض سلوكيات البشر وأنماط عيشهم في تلك البقعة تحديداً قيساها إلى غيرها من الأماكن على وجه الأرض.
في كتابه “تحرير المرأة”، نقلاً عن طبعة دار المعارف بالقاهرة سنة 2017، يقول قاسم أمين: “المرأة الفلاحة تعرف كل ما يعرفه الرجل الفلاح، مداركهما في مستوى واحد لا يزيد أحدهما عن الآخر تقريباً، مع أننا نرى أن المرأة في الطبقة العالية أو الوسطى متأخرة عن الرجل بمسافات شاسعة، ذلك لأن الرجال في هذه الطبقات تربت عقولهم واستنارت بالعلوم، ولم تتبعهم نساؤهم في هذه الحركة، بل وقفن في الطريق، وهنا الاختلاف هو أكبر سبب في شقاء الرجل والمرأة معاً”.
كان ذلك حوالي العام 1899، أي قبل أكثر من مائة وعشرين عاماً، إذ يرى قاسم أمين أن المرأة والرجل متساويان – حينها – في المدارك، ليس في مصر بصفة عامة وإنما تحديداً لدى طبقة الفلاحين الكادحة مقابل الطبقات العالية والمتوسطة التي لا يتحقق فيها هذا التساوي في الإدراك بحسب رؤيته. كانت معركة أمين ضد المحافظة المتشددة ومع الانفتاح فيما يخص المرأة تحديداً، وكلامه المقتطف هذا أبلغ دليل على نسبية الحديث عن المحافظة والانفتاح، فالمتوقع أن تكون المعركة على أشدّها تطلّعاً إلى قدر من الانفتاح في طبقة الفلاحين مقابل انفتاح – ولو نسبي – في الطبقتين المتوسطة والعليا، ولكن ما يتبدّى هو العكس تقريباً، على الأقل من وجهة نظر قاسم أمين، وهي وجهة نظر لا يمكن أن يستهان بها في هذا السياق كونه هو الذي فجر معركة الانفتاح/التحرير، وذلك في شقها المتعلّق بالمرأة، وباعتبار أن التساوي في المدارك يستتبع قدراً أكبر من الانفتاح لدى المرأة وليس تساوياً كاملاً في الحقوق والتحرّر مقارنة بالرجل بطبيعة الحال.
تظل مسألة المحافظة والانفتاح نسبية إلى حد بعيد، وتظل لمصر خصوصيتها كالعادة على هذا الصعيد أيضاً. فبالإضافة إلى طبيعة الثقافة العربية الإسلامية التي تجعل قطبي المحافظة والانفتاح في حالة تنافر مستمر وشديد على مرّ العصور في كل البلاد الخاضعة لتلك الثقافة، يبقى العامل الأهم في إبراز خصوصية مصر على هذا الصعيد ممثلاً في الثراء العظيم للحضارة المصرية – التي تفاعلت داخلها مختلف الحضارات – وحيوية المصريين منقطعة النظير التي تجعل استجاباتهم على مختلف الأصعدة قابلة لأن تذهب بالفعل وعكسه إلى أقصى الحدود على طرفي النقيض ثم تستقر في الغالب في الوسط دون أن تفقد قابليتها وقدرتها على الارتداد إلى الحد الأقصى في كلا الاتجاهين متى استدعت البواعث، ولكن بحيث تبدو دوماً مؤثرة للاستقرار في الوسط، وذلك بإجمال القراءة والقياس في أي نطاق من الزمان.