الصحفى الذى يحمل روحه على كفه ويذهب إلى المناطق الخطرة أصبح جاسوسا من وجهة نظر وزارة الدفاع الأمريكية.
الصحفى -وهنا أقصد الصحفى التليفزيونى أو الورقى أو الإذاعى- هو مقاتل غير شرعى فى نفس المنزلة التى يضع فيها الأمريكيون مقاتلى «القاعدة» و«داعش».
المغامر البطل، الصحفى الذى يدفع حياته من أجل إظهار الحقيقة، الذى يضع كاميرته بجوار المدفع والرشاش، يخلق منها رصاصة ليست للموت بل للحقيقة، هذا المغامر العظيم، منظومة القيم المتحركة، يمكن أن نجده خلف القضبان يحاكم بتهمة أنه جاسوس أو عميل.
مؤخرا، وتحديدا الشهر الماضى، أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» دليلا بعنوان «قانون الحرب»، وفيه قدمت مجموعة من النصائح للقادة العسكريين تجاه الكيفية التى يجب أن يتعاملوا بها مع الصحافة. ووضعت فى أحد الفصول مجموعة من المعوقات التى فى النهاية ستمنع أى صحفى من الذهاب إلى تلك المناطق الخطرة، وإن ذهب وغامر كطبيعة فرسان هذه المهنة سينتهى به المطاف فى أحد السجون بتهمة أنه جاسوس، أو ينتهى به المطاف قتيلا لأنه مقاتل غير شرعى، أو بأنه لا يختلف عن أعضاء «القاعدة» و«داعش»، وبئس التشبيه.
الدليل السيئ يطالب أى صحفى يريد الذهاب إلى هذه الأماكن بضرورة أن يأخذ إذنا وتصريحا من سلطات البلاد، يعنى لو أراد أن يغطى الحرب الأمريكية فى أفغانستان وعلى أفغانستان عليه أن يأخذ إذنا من البنتاجون، ثم يذهب ويأخذ إذنا آخر من حكومة أفغانستان.
وطبعا ليس من حقه الدخول إلى تلك الأماكن إلا بعد الحصول على الإذن، وطبيعى ضمن هذا الترتيب لن يخرج الإذن إطلاقا.
أمام هذا الجور الأمريكى السلطوى الغاشم ضد الصحافة وحريتها وفرسانها، وخصوصا التليفزيونية منها، فقد ثار كثير من المؤسسات الصحفية فى العالم، مكتوبة أو مرئية، ضد هذه الإجراءات، ولكن ليست هناك مؤشرات تدل على أن البنتاجون سيغير دليله للمنع والقيد.
البعض كان يظن أننا سندخل إلى عصر يتم فيه التعامل مع الصحفى باعتباره مدنيا له كامل الحقوق المتعلقة بالحماية أولا ثم تسهيل الحصول على المعلومة عبر كل الوسائل.
كنا نظن ونحلم أنه لو ذهب صحفى إلى دولة أوروبية مثلا أو عربية ولم يسهلوا له الحصول على المعلومة، أو ييسروا له التحرك والتنقل، يكون هناك مؤسسة نشتكى إليها، ولكن جاء البنتاجون ليزيد الطين بلة، وينكأ جراح الأمة الصحفية فى العالم، ويزود متاعبها، وهى مهنة المتاعب بلا شك.
ضحايا الصحافة يزدادون!
حين نشر الاتحاد الدولى للصحفيين ومقره بروكسل تقريره السنوى عن العام المنقضى 2014 أصابتنا فاجعة كبيرة، إذ إن عدد ضحايا الصحافة يزدادون، فقد وصلوا إلى 118 بزيادة 13 صحفيا عن العام الذى سبقه. هؤلاء هم ضحايا الحروب، أى الذين قُتلوا فى أثناء تغطيتهم للحروب، إما بطريقة العمد وإما بالقنابل وغيرها. هذا بخلاف 17 صحفيا قتلوا نتيجة تغطيتهم للكوارث الطبيعية، زلازل أو ما شابه ذلك.
إذن 135 صحفيا يموتون فى عام شىء فاجع لأننا نتحدث عن مهنة عدد أعضائها فى العالم قليلون حد الندرة، وبالتالى لو ترك الأمر بهذا الشكل قد ينقرض المجتمع الصحفى، أو قد تصبح هذه المهنة مهنة طاردة.
وبالتالى كانت توصيات الاتحاد الدولى تجاه حكومات العالم وزعمائه أن يتخذوا مزيدا من الحماية للصحفيين، ومزيدا من الإجراءات التى تضمن حريتهم فى القول وفى التحرك.
الاتحاد طالب أيضا بضرورة وجود قوانين تضمن حق الصحفى إن جار عليه أحد، وفى النهاية خرج علينا البنتاجون بمزيد من التضييق وتبرير القتل واستهداف الصحفيين.
الآن من سيذهب إلى باكستان التى صُنفت بأنها المنطقة الأخطر وفيها وحدها 17 من الصحفيين القتلى؟ ومن سيذهب إلى سوريا التى راح فيها 12 صحفيا ومنهم من ذُبح وشاهدنا ذبحه؟ ومن سيذهب إلى فلسطين وأفغانستان التى قُتل فيهما 9 صحفيين؟ ومن سيذهب إلى العراق وأوكرانيا وقد قُتل فيهما 8 صحفيين؟ مَن إذن مِن أمّتنا الصحفية سيكون له قلب ليودع أبناءه وهو على يقين بأنه لن يعود؟
ما الذى حدث؟ الذى حدث أن كثيرا من المؤسسات الصحفية المعتبرة سحبت صحفييها من هذه الأماكن، بل ورفضت حتى أخذ تقارير بالقطعة من أصحاب المكان، ورفضت كل الطلبات التى يتقدم بها صحفيوها الفرسان، ضاربين بهذه القيود عرض الحائط.
إذن كل هذا التضييق لصالح من؟ لصالح الحكومات السلطوية الظالمة التى ليس من مصلحتها وجود هذا الصنف من الناس وهم حاملو فوانيس الحقيقة، هم يريدون مزيدا من الظلام ليقتلوا على راحتهم، ويتجاوزوا على راحتهم.
الخوف كل الخوف أن يصبح ما أقدم عليه الأمريكيون سلوكا سينتهجه كثير من الدول التى تعودت تقليد السيد الأمريكى. ويصبح اضطهاد الصحفيين وقتلهم تقليدا عالميا.
نقلًا عن موقع “التحرير”