سواء على المستويات الفردية أو على مستوى الشخصيات الوطنية بصفة عامة، تبدو الشخصية المصرية الأبرع في محيطها الإقليمي – وعلى الأرجح من الأبرع على النطاق العالمي على صعوبة القياس نسبة إلى اختلاف الثقافات والمرجعيات – في اصطياد مشاعر الآخرين. البراعة في اصطياد المشاعر تتطلب أن تكون الشخصية – سواء على المستوى الفردي أو على نطاق الشخصية الوطنية مجملاً – بارعة ابتداءً في اجتذاب أنظار الآخرين، أو – بتعبير أكثر درامية – بارعة في سرقة الكاميرا والاستئثار بالاهتمام على حساب من حولها من المنافسين على صعيد المشاعر وما يستتبعه بصورة تلقائية من اهتمامات على مختلف الصعد.
على الرغم من أننا نحاول باستمرار في هذا السياق قراءة الشخصية المصرية على امتداد عصور تاريخها العريض والعميق، فإنه لا مناص من أن تكون القراءة – والأحكام التي تنسرب تلقائياً بصورة أو بأخرى على أي نطاق – متصلة بالعصور الحديثة أكثر من اتصالها بالأزمنة القديمة، بل أكثر اتصالاً بالشخصية المصرية التي عايشناها خلال أي من مراحل حياتنا أكثر مما هي مرتبطة بتلك التي عرفناها عبر أي من نوافذ التاريخ القريب جداً. السبب الرئيس في هذا أن الشخصية الوطنية تتغير، ليس فقط رجوعاً إلى حقب التاريخ المتباينة بوضوح على المدى البعيد وإنما على مدى الأجيال المتعاقبة والمتعايشة التي يسلّم بعضُها بعضاً مقاليد الحياة بما لا تتم ملاحظته كما لو كان احتفالاً رسمياً لتنصيب جيل جديد على حساب جيل قديم وإنما في عملية بطيئة أشبه بالانتقال التدريجي من النهار إلى الليل والعكس.
كذلك، فإن الحكم على أية شخصية وطنية لن يخلو من تأثير مرجعيات وانطباعات من يقرأ تلك الشخصية سواء أكان من أبنائها أو غريباً بدرجة أو بأخرى، وهو ما أشرنا إليه مراراً. نقول كل ذلك على سبيل التقديم لما سنقتطف عنه فيما يلي عن جاسبار دي شابرول فيما أورده عن “المصريين المحدثين” ضمن كتاب “وصف مصر” الذي عرضنا له أكثر من مرة، وهو اقتطاف على سبيل المثال للعديد من الآراء التي تبيّن أن الحكم على الشخصية نفسها يبدو متناقضاً عند النظر إليه عبر حقب وظروف تاريخية متباينة، وذلك حتى إذا كانت الشخصية الوطنية قد استطاعت أن تحتفظ بمعالم واضحة لها عبر العصور، وهو الأمر الذي برعت فيه الشخصية المصرية بصورة جليّة إقليمياً وحتى عالمياً.
قد يبدو ما يقوله دي شابرول فيما يلي من كتابه، نقلاً عن كتاب “التكيف والمقاومة” للدكتور محمود عودة، كما لو كان يصب في اتجاه معاكس لما يشير إليه عنوان مقالنا هذا. يقول النبيل ورجل الدولة الفرنسي عن المصريين في القرن التاسع عشر: “لا يمكنك أن تكتشف ما يعتمل في نفس المصريين عن طريق ملامحهم. فصورة الوجه ليست مرآة لأفكارهم، فشكلهم الخارجي في كل ظروف حياتهم يكاد يكون هو نفسه إذ يحتفظون في ملامحهم بنفس الحيدة وعدم التأثر سواء حين تأكلهم الهموم أو يعضهم الندم أو كانوا في نشوة من سعادة عارمة، وسواء كانت تحطمهم تقلبات غير منتظرة أو كانت تنهشهم الغيرة والأحقاد أو يغلون في داخلهم من الغضب أو ينحرفون للانتقام فليس ثمة مطلقاً فعل منعكس: احمرار في الوجه أو شحوب مفاجئ يستطيع أن يشي بصراع تلك العواطف العديدة التي تهزهم”.
كلام دي شاربول هذا يكاد يعكس صورة مناقضة تماماً لما عليه مصريو اليوم من حيث العاطفة الجياشة والحيوية والانفعال الذي يراه البعض مبالغاً فيه أحياناً. وبرغم الاعتراض المفهوم الذي يمكن أن يبادر إليه أي متلقٍّ حول رؤية النبيل الفرنسي تلك للطبيعة الانفعالية لدى الشخصية المصرية، وبرغم المؤثرات التي يمكن أن يكون قد خضع لها الرجل بسبب الظروف المحيطة مما أشرنا إلى أمثالها سابقاً، بل وبرغم تفسير الرجل نفسه الذي ربما لا يخلو بعضُه من المنطقية، فإن تلك الرؤية على كل حال لا تفيد بأن الشخصية المصرية – حتى في ذلك الزمان – لم تكن ماهرة في اصطياد المشاعر، بل قد تفيد على الأرجح – إذا سلّمنا بموضوعية تلك الرؤية ودقتها – بأن ذلك هو ما كانت الشخصية المصرية تريد حينها أن تلقيه في روع الآخر من المشاعر تجاهها، وهو التفسير الذي لا يغيب عن دي شابرول من بعض الوجوه رغم وروده في ثنايا واحد أو أكثر من الأسباب مما درج المستشرقون على نسبة استجابات الشخصيات الشرقية إليه بصفة عامة.
يحاول دي شابرول التفسير فيقول: “قد لا يكون الطقس بعيداً عن هذه الحالة، فحيث يبدو الطقس على الدوام بنفس الشكل (وهذا كما هو واضح حكم شديد النسبية على الطقس ابتداءً، قبل أن يمتد تأثير هذا الحكم فيشمل المصريين أنفسهم) فإنه ينقل إلى النفوس على نحو ما ثباته الدائم، ومع ذلك فإن الأسبا…