“ولأمرٍ ما قالت بعض الأقطار الشرقية لمصر إنها زعيمة الشرق العربي، ولأمر ما صدّقت مصر ما قيل لها، فإن كان هذا حقاً فإن له نتائج يجب أن تنشأ عنه وتبعات يجب أن تترتب عليه، وإن لم يكن هذا حقّاً فإن من الواجب علينا أن نحققه؛ لأن فيه تحقيقاً لكرامتنا من ناحية، ولأن فيه ارتفاعاً عن الأثرة التي لا تليق بشعب كريم، والشيء الذي لا شك فيه هو أن الله قد هيأ لمصر من أسباب القدرة على إحياء الثقافة ونشرها ما لم يهيئ لغيرها من الأمم العربية، فمما لا يليق بالمصريين وقد تسامع الناس بأنهم كرام، وزعموا هم لأنفسهم أنهم كرام أيضاً، مما لا يليق بهم أن يؤثروا أنفسهم بما أتيح لهم من الخير ويختصوها بما أتيح لها من النعمة، وإنما الذي يلائم كرمها وكرامتها وما تطمح إليه من المثل الأعلى أن يكون حديثها ملائماً لقديمها وأن تكون مشرق النور لما حولها من الأقطار وأن تكون البلد الذي تهوي إليه أفئدة الطالبين للعلم والراغبين فيه”.
ذلك طه حسين، نقلاً عما ضمّته طبعة جديدة من كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” صادرة عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة سنة 2014، والمقال متاح أيضاً في “ويكي مصدر” على الإنترنت ضمن العدد 286 من مجلة الرسالة بتاريخ 26 ديسمبر 1938.
المقتطف أعلاه وما يليه من أعمق ما كُتب حول دور مصر في محيطها العربي وأكثره هدوءاً وثقة، وطه حسين ظل عميقاً وهادئاً وثاقب الذكاء على هذا الصعيد، وقد أشرت في مقام مستقل إلى أنه قال مرة ما مفاده أن سوريا – ببعض ما ظهر فيها من الحراك الأدبي والفكري البارز خلال حقبة ما من التاريخ الحديث – توشك أن تنتزع لواء السبق الأدبي من مصر، ثم ردّ عندما انفعل البعض في مصر من ذلك الكلام بأنه لا يقصد ما يقول حرفياً، ليس بالضرورة لأن سوريا من غير الممكن أن تفعل ذلك وإنما لأنه يرى الحراك الأدبي والفكري مسألة تآزر يشد فيها بعض الأقطار العربية بعضاً، وهو إنما قال ما قال من باب التشجيع والتحفيز ابتداءً.
العمل الأدبي والفكري على امتداد العالم العربي لن يخلو من المنافسة بالطبع، تماماً كما هو الحال على أي صعيد آخر، سواء في العالم العربي أو في أية بقعة غيره، وسواء بين الجماعات أو الأفراد. هي إذن منافسة وليست منازعة أو منازلة ينبغي بالضرورة أن تنتهي بتتويج منتصر واحد على حساب الآخرين. إنها مسألة متعلقة ابتداءً بالعمل وقيمته ضمن أي مجال – لا الثقافة وحدها – في إطار آصرة هي موجودة بالفعل وليست قيد الاختراع، يبرز في ذلك العمل البعض بصورة تلقائية بوصفه الأكثر نشاطاً وتأثيراً، ومن الطبيعي أن يتغير ذلك على مدى طويل أو قصير فتتبدّل مواقع التأثير والتأثّر، فيصعد إلى الذروة ليس من كان أقلّ تأثيراً فحسب وإنما من كان تأثيره ضئيلاً جداً قبلها، وتلك من سنن الوجود التي لا تعيب ابتداءً أيّاً من الأطراف إلا من تلذّذ بأن يركن إلى الإمعان في التواني.
ما ينطبق على الأدب ينطبق على سائر صعد الحياة، لكن طه حسين – المشغول ابتداءً بالآداب والثقافة بحكم اهتمامه الأساس – يواصل حديثه بانتباه دقيق لأهم مقتضيات الزعامة/الريادة الأدبية والثقافية ودور مصر شديد الخصوصية على هذا الصعيد: “إن مصر تُيسّر لبعض البلاد العربية استدعاء بعض المعلمين، ولعلها تجد في ذلك شيئاً من الجهد، ولكن هذا من أيسر الأمر أيضاً. وتبعات المركز الممتاز الذي أتيح لها بين الأقطار العربية تفرض عليها أكثر من ذلك. ولست أذكر إلا أمرين اثنين، أحدهما قد أخذت مصر بأسبابه ولكن في بطء وتردد، وهو فتح أبواب مدارسنا ومعاهدنا للطلاب الشرقيين والعناية بهم إذا وفدوا على بلادنا، لا بأن نيسّر لهم طلب العلم فحسب بل بأن نيسر لهم حياتهم في مصر أيضاً. وإني لأوازن بين ما تصنعه البلاد الأوروبية لتحقيق العناية بالطلاب الأجانب وما نصنعه نحن فأوازن بين الوجود والعدم. ومع ذلك فأوروبا حين تعنى بالطلاب الأجانب إنما تنشر الدعوة لنفسها وتستقدم الأجانب لينفقوا فيها أموالهم وليعودوا منها وقد تأثروا بها وأصبحوا لها رسلاً في بلادهم، فأما نحن فلسنا في حاجة إلى نشر الدعوة لأننا لا نطمع في شيء، ولأن الدعوة المصرية تنشر نفسها في الأقطار العربية لما تقوم عليه من الحب والمودة والإخاء. وإنما يجب علينا أن نيسر لطلاب الأقطار العربية الدرس والإقامة في مصر أداء للحق ونهوضاً بالواجب ووفاء للأصدقاء وصرفاً لهؤلاء الأصدقاء عن الرحلة إلى أقطار الغرب إن وجدوا في هذه الرحلة مشقة أو عناء”.
هذه الرؤية تتجاوز الآداب والثقافة إلى التأثير الاجتماعي وربما السياسي من ورائه، وهو تأثير مشروع بطبيعة الحال مادامت الدولة المؤثّرة قادرة على النهوض بتبعاته، وسيغدو تأثيراً مستساغاً من الدول الموجّه إليها ما دام يُصنع بمهارة وليس فقط من منطلق المودة والإخاء على أهمية هذا المنطلق، فالفرق بين أوروبا ومصر على هذا الصعيد ليس فقط أن مصر تتعامل مع إخوتها وإنما أنها ظلت تتوجه إلى أولئك الإخوة بنسختها الخاصة المميزة لتصدّر الحركة الثقافية والاجتماعية انطلاقاً من رسالة مشتركة وليست غريبة كما هو الحال مع المثال الأوروبي لدى تعامله مع أطراف العالم الأخرى، وذلك بالانتباه إلى خصوصية الخلفية السياسية التي هي عرضة للتباين بين الأشقاء رغم كونها تظل – للمفارقة – عاملاً بالغ الأهمية في ترسيخ التأثير على الصعيدين الثقافي والاجتماعي وسائر الصعد.
الأمر الثاني الذي يذكره طه حسين من تبعات مركز مصر المرموق وسط العرب متعلق بإنشاء مدارس مصرية للتعليم الابتدائي والثانوي في الأقطار العربية (كان يتحدث بصورة أكثر خصوصية في ذلك المقام عن سوريا ولبنان وفلسطين، وعن العراق أيضاً). وبرغم أن هذه الفكرة قد تجاوزها هذا الزمان، بعد أن تحققت بالفعل في بعض الأقطار العربية، فإن رؤية المفكر الكبير جديرة على هذا النطاق بتذكرها واستلهامها رغم أنها تقوم على مثالية يصعب تحقيقها تكاد تستند على المودة والإخاء بصورة شبه مطلقة من بين سائر الدوافع: “ومن المحقق أننا إذا أنشأنا المدارس المصرية في الأقطار العربية فسننشئها وسنسيّرها على النحو الذي نحب أن تنشأ عليه المدارس الأجنبية في بلادنا وأن تسير عليه أيضاً. سننشئها على أنها معاهد للتعاون الثقافي بيننا وبين أهل هذه البلاد، لا يستأثر المصريون وحدهم بالعمل فيها، بل يستعينون بمن يقدرون على معونتهم من الوطنيين، ولا تفرض فيها الجغرافيا المصرية والتاريخ المصري دون الجغرافيا الوطنية والتاريخ الوطني، وإنما تكون معاهد ينشأ فيها الوطنيون لأوطانهم لا لمصر، وحسب مصر أنها تعين على ذلك وتشارك فيه وتؤدي ما عليها من الحق لجيرانها وشركائها في اللغة والدين والاقتصاد، وحسبها أن تظفر منهم بالحب والمودة والإخاء”.
يواصل المفكر الكبير، ربما ببعض ما عُهد عنه من سخرية: “ومما لا شك فيه أن هذه المدارس إن أنشأناها ستكون أنفع لمصر وللبلاد التي تنشأ فيها من كثير من القنصليات والمفوضيات التي نبثها فيها ولا نجني منها نفعاً”.
تطوّر أداء البعثات الدبلوماسية – بعد أكثر من ثمانين عاماً على عبارات المفكر الكبير تلك – بحيث غدت تلك البعثات بمثابة الضرورة في فقه العلاقات بين الدول ولم تعد أهميتها موضع جدال، كما تطورت بصورة موازية الدول العربية الأخرى جميعاً، بل صعد من بينها إلى ذرى التأثير عربياً وحتى عالمياً ما لم يكن قد تأسس أو استقل حين كان طه حسين ينظر إلى آفاق تأثير مصر على امتداد العالم العربي عبر كلماته تلك، والأهم تطورت وتعقّدت موازين العلاقات بين الدول العربية تبعاً لذلك بصورة تلقائية، ولكن ما بقى ثابتاً هو دور مصر الفريد في موضع ريادة عربية تتسع مجالاتها وتضيق وتتبدّل في أشكالها لكنها لا تختفي مطلقاً.
الفريد في خصوصية التأثير المصري عربياً – على اختلاف أشكاله وتباين درجاته – أنه في الغالب موضع إقرار ليس فقط من الدول العربية الأقل نفوذاً بل حتى من قبل تلك التي تسابق مصر إلى ذرى التأثير العربي ولا يمنعها ذلك من أن ترحب بالتأثير المصري الكبير استيقاناً منها أنه لا مناص منه بشكل أو بآخر على هذا الصعيد أو ذاك.
اللافت أنه عندما يحين الإقرار بجدوى التأثير المصري الفريد عربياً فإن نبرة المحبة والاعتزاز غالباً ما تعلو على نبرة الضيق والانزعاج اللذين قد يظهرهما أو يضمرهما البعض من المزاحمة المصرية في السبق والريادة. والجدير بالانتباه أن الانزعاج من التأثير المصري عربياً يكون عادة ردة فعل مقابلة لنبرة يعلو بها البعض أحياناً في مصر من باب المباهاة بالريادة والتميّز المصريين. وباستلهام بعض أعمق ما في رؤية طه حسين – وسحبها من النطاق الأدبي والثقافي لتشمل سائر مناحي الحياة العربية – فإن تلك المباهاة تبدو زائدة على الحاجة، ليس فقط لأن المقام مقام مودة وإخاء وإنما ابتداءً لأن القوة المؤثرة لا حاجة لها لأن تلح في الإعلان عن سطوة تأثيرها، فالواقع هو الأكثر بلاغة في الإفصاح عن ذلك التأثير بلسان الحال، ولسان حال العرب أكثر لهجاً بحب مصر وأشد اعتزازاً بمكانتها عندما ينطلق وحده دون وصاية أو تذكير من أحد سواء من داخل مصر أو خارجها.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])