ملحمة الحرافيش واحدة من اهم الاعمال الروائية لاديب نوبل الكبير “نجيب محفوظ”، وسر قوة “محفوظ” تكمن فى العمق الشديد فى كتاباته فهو دائماً يقدم معانى بسيطة ظاهرة وفلسفة عميقة كامنة، ورغم ان “الحرافيش” تبدوعمل درامى مثير ومفعم بالشخصيات والمعارك وتلك الامور التى تعجب وتغرى بعض القراء والمشاهدين، الا ان وراء تلك الاجواء الصاخبة مقاصد فلسفية وتحليل دقيق للنفس البشرية وصراعاتها الداخلية والخارجية، وبالتأكيد فان تحول بعض قصص الملحمة لاعمال سينمائية اكسبها شهرة وصيت رائع بين الجمهور.
بدأت قصتى مع سينما الحرافيش بفيلم “التوت والنبوت” وهو الفيلم الذى تكاملت به العناصر الفنية بداية من القصة والحوار وكذلك اختيار الممثلين والاخراج ونهاية بالديكور، وعندما شاهدته لاول مرة انبهرت بفكرة التغير الانسانى الذى طرأ على اولاد الناجى واللذين تحولوا من فقراء يجدون بالكاد قوت يومهم لاصحاب املاك، نتيجة عمل الاخ الاكبر “فايز الناجى” فى المخدرات والدعارة والقمار بعد هروبه من الحارة ثم عودته ثرياً وانتشاله لاسرته من غياهب الفقر، واثار فضولى هذا التحول خصوصاً اذا عرفنا انهم اساساً من بيت عريق وهو بيت الناجى ولكن حالهم تدهور بعد وفاة الاب، ولكن الزمن يدور ويصبحوا اغنياء ولكن لفترة وجيزة تنتهى بانتحارالاخ الاكبر بعد ان خسر كل ممتلكاته فى القمار، ليعودوا مرة اخرى الى ذل الفقر مضافاً اليه ذل عار الاخ، وبصراحة ابهرنى اسلوب “محفوظ” فى الرسم الدقيق لصورة افراد الاسرة جميعاً الام والشقيقين “عاشور”، “ضياء” وزوجتيهما فى كل المراحل بعد ان دار بهم الزمن دورة كاملة تحت تأثير المال.
وكانت الجولة الثانية مع فيلم “الحرافيش” واعجبتنى شخصية “خضر الناجى” بما فيه من جدعنة وشهامة وكان الممثل الذى قام بالدور هو “ابراهيم الشرقاوى” وبالمناسبة رغم انه ممثل رائع الا اننى لا اعرف السر وراء عدم استمراره فى عالم البطولة، ولكن ربما هى الاسباب المصرية التقليدية التى تبتعد بالموهوبين عن منصات التتويج وتدفع بانصاف وارباع الموهوبين الى القمة، ولكن لا ينسى له اداؤه لمشهد النهاية التاريخى عندما عاد فجأة وقت بيع وكالة والده ووقف الى جانبه فى مرضه واحتفظ بالوكالة.
والجولة الثالثة كانت مع فيلم “شهد الملكة” ورغم اننى وقت ان شاهدته لاول مرة لم اكن اعلم بانتماء قصته للملحمة الا انه اعجبنى التنوع فى اختيار الشخصيات التى احاطت بالبطلة “زهيرة الناجى”، ما بين العاشق الغلبان والثرى والقوى وصاحب السلطة والحكيم.
وكانت الجولة الاخيرة ومسك الختام مع فيلم “المطارد” الذى سمعت عنه ولم اشاهده حتى فوجئت بعرضه على احد القنوات المشفرة، ولا اعرف لماذا خطفتنى اجواءه وقصته واداء الممثلين وكل شئ، ورغم ان نجمى المفضل الراحل “نور الشريف” كان بطلاً للفيلم الا اننى كنت ولا زلت منبهراً بالمشاهد القليلة التى اداها القدير “صلاح نظمى” الذى ادى دور عم البطل، وبالمناسبة هو نفسه “خضر الناجى” بطل فيلم “الحرافيش” ولكن بعد ان كبر سنه وضاعت قوته وسطوته واستقر فى تجارة تدر عليه ربح جيد، وحرص على ان يبتعد هو وابنى شقيقه عن تحدى الفتوة الجديد على ان يدفع له بانتظام الاتاوة بسخاء مقابل ان يتركه فى تجارته، ويعاونه فى ذلك ابن اخيه “محمد التاجى” شقيق البطل “سماحة الناجى”، ولان البطل تمرد على ذلك الوضع وتحدى الفتوة وزبانيته فقد حاولوا استفزاز شقيقه وعمه وقتلوا الشقيق بعد ان اهانوا كرامته بشكل صارخ وردد مقولته الشهيرة “سماحة كان على حق !!” لان اخيه “سماحة” كان يرفض الرضوخ للفتوة، واصيب العم بالشلل نتيجة تطاول الفتوة عليه بالضرب رغم سنه الكبير بعد ان طفح به الكيل من بلطجتهم وجبروتهم.
واتوقف متحيراً امام شخصية العم فبعد ان كان فى ذروة القوة والسطوة والمال سقط مع كبر السن فى مستنقع استرضاء الفتوة مقابل ان يحتفظ باستقراره المالى وهيبته الهشة، ورغم كل هذا الذل وجد نفسه فى النهاية بين اختيارين اما استمرار التنازلات والتضحية تماماً بكرامته او ايقاف نزيف التنازلات ولو على حساب ضياع كل شئ، والخلاصة العميقة التى اراد “نجيب محفوظ” ان يصل بها لقرائه او مشاهدى الفيلم (من خلال تلك المشاهد البسيطة والتى ربما مرت على الكثيرين مرور الكرام !!) هى ان من يبيع كرامته وحريته من اجل امنه سوف يضطر فى اقرب فرصة للتضحية بالامن الزائف من اجل استرداد جزء بسيط من كبريائه المفقود، ولكنه سوف يخسر كل شئ ويردد مقولة “يا ولاد الكلب .. سماحة كان على حق” ولكن بعد فوات الاوان !!