عمرو منير دهب
تأتي الشهرة أحياناً طواعية، بل سَلِسة تلقائية دون دعوة أو إلحاح من الطامح إليها، وربما تفاجئ مَن لا ينشدها بوضوح أساساً. كما تأتي الشهرة بعد جهد عظيم فلا تدين لبعض الطامحين لها إلا غِلاباً، وليس من السهل على أية حال الحكم على أيٍّ من نوعَي الشهرة هاذين بوصفه الأكثر انتشاراً، فمن شأن البحث في سؤال كذلك أن يقود المتمهِّل إلى إجابة واحدة: ليس أيّاً مما سبق، فالغنيمة الأوفر التي يحظى بها معظم طلّاب الشهرة في أيٍّ من مجالات الحياة هي الإياب، وكثيراً ما يكون الإياب من رحلة البحث عن الشهرة مصحوباً بجراحات نفسية غائرة.
لا يرضى الطامحون إلى الشهرة بخُفَّي حُنين، والواقع أنه من الصعب أن يرجع أيٌّ من طلابها صفرَ اليدين تماماً، لكن من ينشدون الشهرة يطلبونها “كلّها” ولا يقنعون بـ “القليل” منها، فيَعدّ الواحد منهم نفسه فاشلاً إذا لم يرْقَ إلى أعلى مراتبها كما ظلّ يحلم بها، وحسابُ الشهرة بالغ التعقيد على كل حال.
ليس منطقياً إذن، بعيداً عمّا يأتي طواعية أو مفاجأة، أن يُعنَّف أو يُعاتَب مجتهدٌ في سبيل الشهرة. لكن ما الفرق بين الاجتهاد، بل حتى الإلحاح، وبين التسوّل في طلب الشهرة؟ فصاحب “حاجة” الشهرة أرعن لا يتورّع ابتداءً عن أن يطرق أي باب أو يسلك أية سبيل إلى غايته، وهو على كل حال لا يعجز عن التماس المبررات أمام كل باب يطرقه وعلى كل سبيل يسلكها.
تبدو المسألة والحال كتلك نسبية إلى حدّ بعيد، بما يجعل من الصعب التفرقة بين نِشدان الشهرة اجتهاداً وبين التماسها تسوّلاً، إلّا ما وقع من الفعلين على طرفي نقيض: إمّا في أظهر حالات الاجتهاد قبولاً واحتراماً وإمّا في أقصى نماذج التسوّل وضوحاً وافتضاحاً. ولكن مجدداً، ينبغي الحذر من النسبية الطاغية التي تحيط بتثمين تحرّكات الطامحين إلى الشهرة رجوعاً إلى فيض من المؤثرات المتداخلة في كل مكان وزمان.
تحت عنوان “لا تتسوّل الصداقة”، من كتاب “كيف تكون نجماً اجتماعياً لامعاً” الصادر عن دار ثمرات للنشر والتوزيع بالقاهرة عام 2011 ، يقول الدكتور إبراهيم الفقي: “عندما يأتي أحدهم لكي يتسوّل الصداقة، فالميل الطبيعي هو الابتعاد عنه، ولا يرجع ذلك إلى بعض السمات في الطبيعة الإنسانية، ولكن إلى نفس القانون النفسي الذي نتحدث عنه، فالشخص اللحوح يشعر بالخوف – إلى حدّ الموت – من أن الطرف الآخر لن يحبه أو من أنه لن ينفذ له ما يريده، وبدلاً من أن يقول لنفسه: أعرف أن الطرف الآخر سوف يحبني، يقول لها: إنني أخشى كثيراً من ألا يحبني، وهو نفس الشعور الذي يتسرب إلى الطرف الآخر: أن الشخص اللحوح لا يبدي الثقة في نفسه.
وليست الوسيلة هي أن تمتهن نفسك كي تلفت نظر الطرف الآخر وتدفعه إلى الإسراع نحوك، إن ما عليك (فعله) هو أن تسترخي وتدرك أنه سوف يصبح ودوداً ويتصرف بحكمة، ووقتها ستكون هادئاً ومتماسكاً عند تعاملك معه. والشيء الذي يستطيع أن يقوم به الشخص اللحوح هو أن يبتسم، فمن المستحيل تقريباً أن تكون قلقاً ومشدوداً عندما تكون مبتسماً، فالابتسامة استرخاء، والابتسامة تظهر الثقة، توضح أنك تدرك أن الطرف الآخر سوف يأتي كما هو متوقع منه أن يفعل”.
من السهل أن نسحب ذلك الكلام على موضوعنا هذا لولا أن تعريف التسوّل واصطياده في علاقة إنسانية مباشرة كالصداقة أيسر كثيراً قياساً إلى فكرة معقدة كالشهرة، وتحديداً بملاحظة أن الصداقة عموماً هي علاقة بين فردين، أمّا الشهرة فهي علاقة بين فرد وطائفة عريضة بالضرورة من الجماهير.
وسنكتشف مدى الفرق العميق بين العلاقتين بتأمّل الابتسامة التي تغدو ساحرة المفعول في العلاقة بين شخصين كما يشير الدكتور الفقي، والابتسامة نفسها التي تغدو بلهاء إذا فكّر طامح إلى الشهرة في أن تكون أحد أسلحته (الناعمة بطبيعة الحالة) التي يمكن أن يُشهرها في وجوه جماهير عنيدة لا تراه جديراً بأن تصرف إليه أي قدر من اهتمامها.
هذا عن الابتسامة، وعلى سبيل المقارنة الساخرة بين المسألتين: علاقة الصداقة بين فردين وعلاقة الشهرة بين فرد وطائفة عريضة من الجماهير.
ولكنّ ما يرِد في كلام الدكتور الفقي، فيما وراء الابتسامة من تفاصيل تسوّل الصداقة وآثاره، جدير بالنظر إليه على صعيد طلب الشهرة، وذلك إذا أفلحنا في تحديد المدى الذي يمكن أن يُضبط عنده أحدُهم على الطريق المفضية إلى الشهرة متلبّساً بالتسوّل.
تسوُّل الشهرة بالإلحاح في الظهور المتواتر مصحوباً بعبارات التملّق الزائدة من شأنه أن يبعث في نفوس المتابعين الإحساسَ بأن “نجمهم” المرتقَب يفتقد الثقة بالنفس، أو بتعبير أكثر دقة يفتقد الثقة في إبداعه أو في بضاعته التي يتقدّم بها إليهم حتى إذا لم ترْقَ تلك البضاعة إلى مرتبة الإبداع وكانت مجرد وسيلة (مشروعة؟) للظهور الجماهيري، ولن يعدم منظّرو الإعلام الجماهيري على كل حال ذريعةً لإثبات أن كل محتوى يخوّل لصاحبة النجومية يستحق لقب “إبداع”.
إحدى أشهر وصايا النجومية الكلاسيكية هي عدم الإسراف في الظهور أمام الجماهير، فكلمة “نجم” – وفق تلك الوصية – مشتقة من البعد أيضاً (وربما أساساً) وليست من التألق فحسب. أدبيّات وقواعد الظهور الجماهيري الحديثة لم تقلب أو تغيّر تلك القاعدة، قدرَ ما أعادت تعريف “البعد” كمّاً ونوعاً، وهي إعادة تعريف تستند إلى نسبية في حساب وتقدير الأشياء لا غير، فالنجم هذه الأيام ظلّ كما كان من قبلُ أبعدَ عن الناس من المعتاد، وذلك بتجاوز طلّاته على سبيل المخاتلات التي تُظهر التحاماً زائفاً بالناس في هذه المناسبة وتلك بغرض إشعار الجماهير بأن نجمها “منها وإليها”. والحق أن النجم حتى إذا كان صادقاً في تواضعه والتصاقه بجماهيره لن يكون بوسعه فعل الكثير أمام مقاومة “شرط” الابتعاد عن الناس مسافة (مادية ومعنوية) كافية لتأمين نجوميته، وستغدو لعبة الالتحام المخاتل مع الجماهير امتحاناً عسيراً لنجم عميق الصدق في قربه من الناس.
الظهور الزائد، ومن ثم تسوُّل الشهرة، امتحانُ الطامح إلى النجومية أكثر مما هو امتحان النجم الذي صعد إلى السماء وحقق مبتغاه من البعد والتألق. فالجماهير قاسية في منح مساحة من وجدانها لضيف جديد، لكنها أكثر تسامحاً مع مَن تعرف مِن الضيوف حتى إذا تكررت زياراتهم لها بقدر من الإزعاج. والجماهير أكثر يقظة لالتقاط إمارات التسوّل مهما يجتهد في إخفائها المتقدمون الجدد بطلبات الاستضافة مع مرتبة نجم، في حين تُنعم على ضيوفها من قدامى النجوم بعين الرضا كليلةً عن كل عيب ولو كان في فداحة التسوّل.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])