بسام سرحان C`mon c`mon
يقول مايك ميلز، مخرج ومؤلف فيلم C`mon c`mon أن ابنه من أعطي له الإلهام في عمل هذا الفيلم، عبر عن ذلك واصفاً ابنه “لقد وضعت قلبك بالكامل لهذا الشخص الآخر، وهذا صحيح حقًا.
هذه ليست مزحة. ومشاهدته يمر أمامك بالحياة، يكتشف الأشياء في مثل هذا، كما تعلم، من صفر إلى 60، يعلمك الكثير عن نفسك، والعالم، وكل شيء. لذلك هذا هو الذي أردت حقًا الكتابة عنه “.
أما عن اسم الفيلم فهو بالفرنسية C`mon c`mon وهو يعني حرفيا هيا هيا، ومعناه فعلا فلتمضي فلتمضي يقول مايلز أنه قد استلهمه من الملحن الفرنسي الكلاسيكي ايريك ساتيه حينما كان يستمع إلى إحدى مقطوعاته في صالة الجيم ولكنه لا يعلم تحديدا لماذا هذا الاسم فقد أحبه وقرر أن يكون عنوان فيلمه ولربما نستكشف سبب التسمية علي لسان أحد الأبطال وهو الطفل ودي نورمان، الذي يقوم بدور جيسي في إحدي المشاهد وهو يسأل ويجيب على نفسه بأن الأشياء المخيفة التي يخشى أن تحدث لن تحدث أبدا وكل ما علينا فعله هو أن نمضي ثم نمضي ثم نمضي come on.
تحولت علاقة المخرج وابنه الحقيقية إلى علاقة صحفي إذاعي وابن اخته في الفيلم، قام بدور الصحفي ملك الأدوار النفسية المعقدة في حقبتنا واكين فينكس بدا ذلك من فيلمه الشهير “her 2013” مرورا بـ “Irritional man 2015” مع وودي آلان ثم نال الأوسكار الأولى المستحقة في “Joker 2019” ربما هنا في فلتمضي فلتمضي ليس تجسيد بقوة تلك الأفلام ولكنه تعبير عن حالة نفسية أليمة جسدها واكين بشكل متقين وبسيط في دور جوني.
جوني الذي يعمل صحفي إذاعي يحاور الاطفال محاولا استكشاف نفسه والعالم وخباياه من هؤلاء الأطفال وكأننا نسأل المستقبل عن المستقبل فيقوم هو وزميلته بأسئلتهم عن كيف يرون المستقبل؟ وكيف يروا شكل العالم بعد سنين من الآن؟ وكيف سيكونوا هم؟ وما الذي يزعجهم من البالغين وأهلهم؟ وكيف يتخيلوا أنفسهم بعد الموت وانتهاء الحياة؟ وماذا سوف يكون بعد ذلك؟ يبدأ الفيلم بتلك الاسئلة التي تشغل الدماغ البشرية وينتهي بها بإجابات متفرقة من الأطفال تعكس عمق النفس البشرية منذ الصغر قبل أن تتحول لسطحيتها في البلوغ كما قيل علي لسان أحد الأطفال “أن البالغين هم مجموعة لا يفعلون شيء سوى الاقتراض ودفع الأقساط”.
يطرح -جوني- واكين فينكس الأسئلة طوال حياته للاطفال ويبرز مدى اهتمامه بهم واخذهم علي محمل الجد كما يجب وكما يفعل دوما في كونه شخص متحمل لمسئولية من حوله دوما.
نري إحساس التحمل بالمسئولية للبطل في لقطات مثل مرض أمه الذي تطور لأعراض شيخوخة تجعلها تتخيل أن والداها قادم إليها لياخذها للتنزه وتطلب من جوني ابنها أن يلبسها ملابسها لذلك فيخصع جوني لها ويسايرها لتاتي اخته حانقة على ذلك وترفض تلك المسايرة وتتهمه بالخضوع دائما وهي من تتحدي دائما ليتضح لنا رسم شخصيته في تحمل مسئوليات من حوله ونسيان نفسه من أمه لاخته التي تتشاجر معه بسبب عدم تقارب وجهات النظر بينهم لحبيبته التي تركته، ولكنه لا يستطيع أن يواجه حقيقته تلك وينغمس في عمله الذي يحبه وقد وصفه بأنه إلهاء كامل لما يمر به. حتي تقرر اخته أن تذهب إلى زوجها السابق التي قد تركته حينما أصاب باضطراب ثنائي القطبين (بعدما طلب منها اخاها ذلك ولربما كان ذلك تعبير عن انانية جوني على حساب أن يعتني باخته حتى وإن كان ذلك فيه ما يضر زوجها وقد اعترف بذلك ضمنيا معها اسفاً على ذلك) وتقف بجانبه في محنته حتى يجتازها وقد أوكلت أخاها بأن يعتني بابنها جيسي في تلك الفترة لتبدأ الرحلة.
رحلة اكتشاف نفسه من خلال ابن اخته الذي رأي واكين أنه انعكاس لشخصه ومدى التشابه بينهم كبير ليرى أن الطفل مهتم بشأنه وهو في حياته لم ير أحد يهتم بشأنه مثلما هو اهتم، فنري في مشهد الطفل يأخذ دور واكين كمحاور ليبدأ بإلقاء الأسئلة على خاله أثناء قراءته لقصة له على الفراش مثل “لماذا لم تتزوج؟” فيتفاجئ الخال جوني من طرح السؤال ويجاوب “كنت مع امرأة ولكننا تركنا بعضنا”، ويواصل قراءة القصة ليقاطعه الطفل مرة أخرى “هل كنت تحبها؟”، فيرد جوني “نعم ومازالت”، فيسأل الطفل مرة أخرى “لماذا تركتم بعضكم إذن؟”، فيقول الخال “لا اعرف” ويواصل القراءة ثم تُقطع القراءة مرة أخرى ولكن تلك المرة يكون جوني من يقطعها وليس الطفل ليستطرد في الإجابة “أعتقد أني كنت لا أملك خيار” وكأنه كان ينتظر من يسأله حتى يعبر عن حاله المكتوم.
وليسالة مرة أخرى في موضع آخر “لماذا انت وحيد؟” ليقلب جوني الإجابة إلى مزحة سخيفة مثلما يتعامل مع إجابته غير المكتملة أو التي لا يقدر على البوح بها دوما إلى مزح سخيف ونعرف ذلك في إحدى مشاهد الفيلم وهو يحكي نفسه ليلا مسجلا لنفسه(تعبيراً عن وحدته) ما يدور في حياته واصفا إجاباته بأنها كذلك.
نرى من خلال رحلة الخال والولد سويا أن الولد يشبه خاله في وحدته، وقد تبين ذلك حينما قال الولد لخاله “انا لا أملك الأصدقاء”، ومرة أخرى حينما كان يستمع إلى أحد تسجيلات خاله للأطفال الذين يحاورهم وهم يجيبوا عن أكثر شئ يخفيهم فيسمع إجابة طفل قد تفاعل معها “لذا ستكون الأشياء التي تخفيني هي الوحدة وأن لا يفهمك أحد بالرغم من ذلك فهم موجودون لفهمك أنه أمر مخيف جدا لأنه يبدو أن ليس لديك أحد”، ونرى علي نظرات الممثل الرائع الطفل وودي نورمان –جيسي- تأثره حينما يسمع ذلك التسجيل ممثلا بعيونه انه يخشي هذا المصير الذي آل إليه نسخته البالغة خاله!
مع اقتراب نهاية الرحلة نرى الخال يدرب ابن اخته علي ألا يكتم مشاعره وأنه حينما يكون ليس على ما يرام فيجب أن يصرخ بأعلى صوته ويقول أنه ليس بخير وأن لا يكتم أبدا مشاعره ويتظاهر بأنه بخير وكأن الخال يصر على ذلك حتى لا يفعل الطفل مثله ويكتم مشاعره التي قد تفضي يوما إلى أن يغمى عليه مرة واحدة مثلما حدث معه.
ربما كان اختيار مايلز أن يكون فيلم C`mon c`mon كله باللون الأبيض والأسود هنا تعبيراً عن الوحدة التي يمر بها البطلان، ربما إذا ظهر من يؤنس أو يمحي وحدة الأبطال أو أن يكملوا حتى معاّ رحلتهم فكان من الممكن وقتها أن تتلون الشاشة.