عمرو منير دهب
رأينا تحت عنوان “لا خلطة سرية” أن التحدّي يتضاعف “عندما تنضاف إلى النجاح مجرّدًا صفةُ الشهرة، فبعض النجاحات الأسطورية لا يلفت الأنظار إذا كان محوره بعيدًا عن اهتمام الجماهير. الأدهى أن يكون موضوع النجاح متعلقًا بمنطقة بارزة من اهتمام الناس ويتحقق النجاح بالفعل إلى حد الاكتساح في حين تظل الأضواء منحسرة عن صاحبه”، وضربنا على ذلك أكثر من مثال.
ورأينا كذلك على صعيد المقارنة المباشرة بين النجاح والشهرة أن “الشهرة متطلباتها أعظم من النجاح، لأن الشهرة تقتضي أن تتيح الجماهير من وجدانها مساحة خاصة للمشهور، ومن المهم الانتباه إلى أن تلك المساحة قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، لكنها في الحالين مخصصة حصراً للمشهور، وهو ما ليس لازماً من قِبل الجماهير مع النجاح وقصصه بصفة عامة، فالنجاح يشير إجمالاً إلى تحقق غاية مادية أو معنوية لا تُعنى بالضرورة بالبريق الذي هو “جوهر” الشهرة”.
ولكن الكتابات والكتب التي تعرض للموضوع، وهي غالباً تجارية أساساً تغمر الأسواق تحت تصنيف “تطوير الذات”، تخلط بين المصطلحين: النجاح والشهرة. والحق أن تلك الكتابات تُعنى ابتداءً بمساعدة القارئ على اكتشاف مكامن نجاحه وإطلاقها، أكثر مما تَعِد أيّاً من القرّاء بالأضواء تتساقط عليه فترفعه إلى مقام النجوم. غير أن الخلط بين مصطلحي النجاح والشهرة يقع حين تعمد تلك الكتابات إلى حشو صفحاتها بقصص المشاهير بوصفها الأمثلة الأجدر بالاقتفاء، والاعتراض البسيط على هذا أن قصص المشاهير أمثلة على النجاح لكنها ليست دوماً، أو على الأقل ليست وحدها، الأجدر بالاقتفاء، وذلك لسببين: الأول، أن السُّقوف العالية (السماء؟) التي تجاوزها المشهور قد تحبط القارئ عندما يقفو خطى المشهور كما وصفها الكتاب فلا تكفل له تحقيق قدر معتبر من النجاح فضلاً عن الشهرة، والسبب الثاني أن ثمة من قصص النجاح الأكثر واقعية (بالنظر إلى استثنائية إنجازات المشاهير) ما هو أجدر بأن يمنح القارئ نماذجَ بسيطة دانت لها من الإنجازات الطموحة ما يمكن لأي من الناس تحقيق ما يشبهه بتشجيع وإلهام الكتاب الذي يجب أن يعرض للقصة الملهمة بمهارة وتشويق ودون الحاجة إلى المبالغة في الوقت نفسه.
ولكن، للأغراض التجارية ابتداءً ولسهولة الحصول على نماذج مقنعة وجاذبة في الوقت نفسه لكونها معروفة، تميل كتب تطوير الذات إلى المشاهير دون غيرهم من الناجحين. وعلى كل حال، لا تبدو مسألة التفرقة بين النجاح والشهرة مما يشغل بال مؤلفي تلك الكتب بأي قدر. غير أنه لا يمكن إغفال الإيحاءات المستترة بوعود من الشهرة مضمرة في أغلفة النجاح التي يُسوَّق لها، وذلك دون الحاجة إلى أن تنصّ تلك المؤلفات مباشرة على إمكانية تحقق الشهرة من خلال اتباع الوصفات ذاتها التي يشار إليها باعتبارها كفيلة بتحقيق النجاح.
على سبيل المثال فحسب وليس لأية اعتبارات بعينها في الاختيار، نأخذ كتاباً مثل Dare to Win: Lessons from 57 of the world’s most successful people ، للمؤلفين جيف تشيغوين Jeff Chegwin وكارميلا دي كليمنت Carmela DiClementeوالصادر في ترجمته العربية بعنوان “تجرّأ تنجح: دروس من 57 شخصية أبهرت العالم بنجاحها” عن دار الساقي عام 2018. ومن الجدير بالانتباه وجود كتاب آخر – أسبق وأكثر شهرة ربما – يحمل العنوان الرئيس نفسه للمؤلفين جاك كانفيلد Jack Canfield ومارك فيكتور هانسن Mark Victor Hansen.
كتاب جيف وكارميلا يعرض لسبع وخمسين شخصية مشهورة من طراز ألفيس بريسلي ووالت ديزني ومادونا وآلبرت آينشتاين وستيف جوبز وبيونسيه وليوناردو دي كابريو وستيفن هوكينغ وبيل غيتس وتشارلي شابلن ونعومي كامبل ومحمد علي كلاي وأغاثا كريستي ووينستون تشرشل وهاريسون فورد وريتشارد برانسون.
مثل غيره من الكتب في الباب نفسه، لا يَعد الكتابُ قرّاءَه بالشهرة قدرَ ما يقدّم من سير المشاهير التي يعرض لها ما يبعث على الإلهام لتجاوز العقبات ومجابهة التحديات التي لا يخلو منها أي طريق لأي من الناس في الحياة. والكتاب إذ يبدو عملياً وواقعياً حين يختم بعض فصوله بعبارة مثل “قد تبدو لوهلة فكرة حمقاء، لكن حاول أن ترى نكستك كنعمة. اغتنمها وتعلم منها؛ سوف تجد أنك أصبحت شخصاً أكثر قوة للمستقبل”، فإنه لا يفوته أن يومئ إلى قارئه في نهاية فصل آخر بإمكانية تحقيق ما يجاوز النجاح الاعتيادي إلى استثنائية الشهرة والمجد: “في المرة المقبلة التي تجد نفسك فيها جالساً على مقاعد الاحتياط، تذكر أنك قد تكون قاب قوسين أو أدنى من المجد”. لا نستطيع أن نحاكم المؤلفين بتهمة بيع الوهم للقرّاء، فتلك مجرد إشارة إلى إنجاز ليس في حكم المستحيل بحال، بل إنها بمثابة الحافز الممتاز وربما الضروري أحياناً لتذكير ملهم للقرّاء بأن كثيراً من المشاهير (معظمهم) لم يكن يعلم مسبقاً بأنه على موعد مع الشهرة يوماً ما وإنما بدأها بحلم، وكثير منهم دانت له الشهرة عن طريق صدفة محضة.
هكذا، تظل التفرقة بين النجاح والشهرة مسألة لا تعني إجمالاً مؤلفي كتب تطوير الذات، بل إن الشهرة مجرّدة تبدو موضوعاً لا يشغل حيّزاً معتبراً من الدراسات في أيٍّ من المجالات على مختلف الأصعدة، ربما لكونها ترفاً محضاً قياساً إلى النجاح بوصفه حاجة ملحة لكل إنسان.
قد يغري الحال إذن باختصار العلاقة بين النجاح والشهرة من خلال استدعاء صيغة تقليدية في التعبير بالقول بأنه ليس كل ناجح مشهور في حين أن كل مشهور ناجح. ولكن ذلك الاختزال لا يسلم من الخطأ، فبتجاوز ما يطالعه الناس من ظاهر الصورة لا يبدو كل مشهور ناجحاً بالفعل، وذلك بالتعمّق في قراءة تعريف النجاح بوصفه تحقيق الإنسان لما يصبو إليه من الأهداف أو لما يشبع ذاته حتى إذا كان من خلال صدفة ما. فقد يلج أحدُهم عالم الشهرة من باب لا يفضّله ويظل مقيماً في ذلك العالم بتأثير عوامل متداخلة أو حظ من أي قبيل وهو لا يشعر بأي قدر من الرضا كون أحلامه في النجاح ظلت في عالم بعيد لم يتسنّ له وُلوجه أو ولجه ولم يحقق فيه أثراً ذا بال.
وقد يغري ذلك بدوره بالإسراع إلى تعميم مفاده أن النجاح أهم من تحقيق الشهرة، ومع الانتباه إلى ضرورة الحذر مع مزالق التعاميم التي تجنح إلى اختزال مفاهيم الحياة، فإن الأدق في هذا المقام أن يعمد كل إنسان إلى الاهتمام ببلوغ الغاية التي يصبو إليها، سواء أكانت تلك الغاية هي النجاح مجرّداً أو النجاح تعلوه قِشْدة الشهرة. وإذا كان لا بدّ من التنويه إلى أهمية الحذر من شيء على هذا الصعيد فهو الركض وراء شهرة لا يدري مَن يلهث خلفها لماذا يريدها وماذا يفعل من بعدها.