عمرو منير دهب
كانت الإجابات التي تواردت إلى خاطري مختلفة تماماً عن تلك التي جاءت منفردة وحاسمة كما في اللقاء الصحفي الذي أجري قبل سنوات طويلة مع أبرز مؤسسي مايكروسوفت وأغنى أغنياء العالم حينها بيل جيتس. كان سؤال المُحاوِر شيئاً من قبيل: في أي مجال كنت تجد نفسك لو لم تسلك طريقك الذي أوصلك إلى ما أنت عليه الآن؟ أجاب بيل جيتس بما مفاده: لست متأكداً تماماً، ولكنني واثق من أنني كنت سأغدو ثريّاً بطريقة أو أخرى.
يفصل بين نهاية سؤال المحاور وبداية إجابة غيتس مسافة حرف وأجزاء من الثانية، ولكن لم يكن غريباً – كما هو الحال مع أي قارئ عادة في مثل تلك الحالات – أن تتسابق عدة احتمالات إلى خاطري لم يكن من بينها ما يتعلق بالثراء من أسباب النجاح والظهور. ولعلي كنت أرى أن إجابة على ذلك النحو من الثقة هي ما سيبادر به الرجل، ولكن عوضاً عن الثراء سيختار النجاح أو التفوّق العلمي أو الشهرة على سبيل المثال لاحتمالات مستقبله المفترض بخلاف ما تحقق بالفعل.
لم يرتبط الثراء في الثقافة العربية والشرقية عموماً بما هو إيجابي باستمرار، على الأقل فيما تضمره العامة من المشاعر تجاه خاصة الخاصة من المستأثرين بالثروة التي ظلّت حظاً بالغ الندرة على مدى التاريخ ولا تزال إلى أيامنا هذه لدى معظم الشعوب العربية والشرقية. بل إن الأمر كان يبلغ حدّ الترويج أحياناً إلى أن الثروة هي نصيب البعض في الدنيا مقابل الجنة في الآخرة لأولئك الذين حُرموا من رغد العيش الدنيوي، ودون إيلاء انتباه إلى طبيعة أعمال الذين فاتهم الثراء مما يخوّل تبشيرهم بالجنة في الآخرة.
لذلك ربما لم أفطن إلى أن أهم ما بلغه بيل جيتس كان لقب أغنى رجل في العالم، ورأيت – بدوافع من عقلي الباطن شرقي الأصول بطبيعة الحال – أن أهم إنجازات السيد غيتس يقع في عبقريّته البرمجية التي يحتفي بها الجميع حتى أولئك الذين ظلّوا يرون فيه رجل أعمال وثريّاً منقطع النظير في التاريخ الحديث.
كان بيل جيتس عندي إذن، مع بواكير مثاليات الشباب الشرقية، عالِماً أكثر من كونه صاحب شركة عملاقة أو حتى أول من ذاع صيتهم من حاملي لقب “أغنى رجل في العالم” عبر منتَج ينتسب إلى العلم أكثر مما يُلحَق بالتجارة الصرفة على نحو ما كان الحال على مر عقود القرن العشرين مع عمالقة صناعات الحديد الصلب والنفط وحتى أباطرة وسلاطين وقادة العديد من دول العالم. وقد زاد من ارتباط غيتس بالمعرفة وليس المال وحده – لدى الشباب إجمالاً – أن الكمبيوتر وبرمجياته بدت حينها بمثابة النقلة النوعية ليس على صعيد البحوث العلمية فقط وإنما بما يبشِّر باكتساح كافة أصعدة الحياة بلا استثناء، وهو أمر يبدو أنه قد تحقق حرفياً الآن.
ولكن إجابة أسطورة البرمجيات وعالم الأعمال على السؤال المشار إليه تسجِّل بدقة في المقابل نظرة الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يخصّ تقييم إنجازات البشر على مختلف أصعدة الحياة. فكما هو واضح يتربّع الثراء وفق تلك النظرة الغربية على أعلى ما يمكن أن تضمّه قائمة من إنجازات، وليس ذلك ابتداءً لأن المال مطلقاً أهم من كل شيء قدرَ ما إن ذلك على الأرجح بسبب تبجيل قدرات أيٍّ من الناس على الإثراء إلى حد التربّع على عرش إمبراطورية أغنياء العالم لكون تلك القدرات تبرهن بدورها على مزايا عقلية من نوع استثنائي بغض النظر عن المجال الذي جُمعت الثروة من خلاله والطرق التي انتهجت لتحقيق ذلك القدر الخيالي من الثراء.
بيل جيتس يشير إذن إلى ذلك المفهوم عندما يقول بأنه لا يعلم المجال الذي كان سيتخذه بخلاف عالم البرمجيات ولكنه على يقين من أنه كان سيغدو ثريّاً بطريقة أو بأخرى، فهو معتدّ بامتلاكه تلك القدرة الأكثر استثنائية على الإثراء أيّاً يكن بابه، وكأنه يشير بذلك إلى أن عبقرية البرمجة ليست أثمن ما يمتلكه من المواهب. يبدو ذلك بمثابة “الحقيقة القاسية” على فتى شرقي مثالي وفق التجربة الشخصية المشار إليها فيما مضى من الحديث، فلو كانت المسألة منحصرة في عبقرية برمجية لاعتلى القائمة آلاف من مبرمجي الكمبيوتر خارقي الذكاء الذين يعج بهم العالم غرباً وشرقاً من مختلف الثقافات والأعمار وحتى المستويات الأكاديمية دون تمييز، ولكن ما جعل السيد غيتس الحالة الأكثر خصوصية هو قدرته على خوض غمار عالم الأعمال بنجاح منقطع النظير وليست مهارته مجردة في التعامل مع عالم الرقميات، وتحديداً الرقمين: صفر وواحد.
غير أنه حتى مع تجاوز بعض جوانب الأحكام المجردة لفتى شرقي كان مولعاً بالأنماط المثالية في القول والسلوك، أجد نفسي كما لو كنت في انتظار إجابة أخرى لبيل غيتس لا تتجاهل المال تماماً ولكن لا تشير إليه بذلك القدر من الصراحة والتعظيم. كان من الممكن للسيد غيتس أن يجب على سبيل المثال كما يلي: لا أعلم يقيناً، ولكنني متأكد من أنني كنت سأغدو بارزاً ومؤثراً بطريقة أو أخرى. هذه إجابة لا تعارض فكرة أن يكون الرجل غنياً – أو حتى أغنى الأغنياء – بطريقة أو بأخرى، قدر ما تشير إلى أن الأهم هو البروز والتأثير وليس الغنى فحسب.
ولكن بيل جيتس قد قال إجابته على كل حال، وهي ليست زلّة لسان وإنما إجابة كان يقصدها الرجل تماماً على الأرجح، والأرجح كذلك أن السيد غيتس – إذا كان يذكر أصلاً ذلك الحديث الصحفي الذي أضعت مصدره بدوري – سيعيد الإجابة نفسها إذا طُرح عليه السؤال ذاته بعد نحو عقدين.
إذا كانت التفرقة بين الثراء مجرداً من جهة وبين الثراء والتأثير في الجهة الأخرى تبدو فكرة فلسفية لم تكن تعني بيل غيتس وهو يجيب على سؤال تقليدي يُطرح عليه بشكل مفاجئ عن احتمالات مجال عمل بديل، فهل بات التأثير واسع النطاق مما يشغل بال الملياردير ذائع الصيت بعد أن ذاق حلاوة الشهرة بحيث يمكن أن يدرجها في حساباته إذا سئل مجدداً عن مجال مختلف يكتسح عبره عالم الأغنياء ويتربّع على عرشه؟
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ( [email protected])