أحمد أسامة
كثيرا ما نسمع أو نقرأ أن الكتاب المشهورين الأجانب في لقاءاتهم الصحفية يصرحون بأن الكتابة هي مهنتهم، هي مصدر رزقهم الذي يعيشون منه. يكون ذلك في أغلب الأحيان بعد أن تكون كتاباتهم قد تربعت على رأس قوائم الأكثر مبيعا، وحققت لهم الكثير من الرضا، وتحقق الذات، إلا أن الوضع يختلف قليلا في العالم العربي، نظرا لقلة معدلات القراءة عن نظيرتها في الغرب، أيضا تفاوت المستوى المعيشي في الدول العربية، مما يجبر القراءة واقتناء الكتب على التقهقر إلى مرتبة السلع الكمالية والترفيهية، نظرا لمحدودية الدخل الشهري وارتفاع تكاليف المعيشة.
كل ذلك وأكثر، جعل الكثير المهتمين بالكتابة الأدبية، لا ينتظرون الكثير من العوائد المادية، ولا يعتمدون عليها كمصدر رزقهم، جراء انخراطهم في ذلك المجال، وينظرون إلى الكتابة على أنها هواية يحبون ممارستها، ويمتهنون مهنا أخرى كمصدر رزق أساسي يعيلون منه أنفسهم وأسرهم، رغم جودة منتوجهم الأدبي، وإشادة النقاد بما تخطه أقلامهم، وعدم تواجد أغلبهم في القاهرة، وانتمائهم لأقاليم مختلفة، لم يتسنى لهم التواجد باستمرار في المحافل الأدبية المتعددة، مما كان سببا في عدم تسليط الأضواء عليهم، ورغم التطور التكنولوجي المتسارع، واحتلال منصات التواصل الاجتماعي لحيز كبير في حياتنا اليومية، ودورها المتنامي في تسهيل التواصل بين الجميع، إلا أن هؤلاء الأدباء مازالوا خارج الترند، إما لرغبة بعضهم في البعد عن الأضواء وصخب القاهرة، أو التزام البعض الآخر بمسئوليات حياتية ومعيشية، تضطرهم إلى الاستقرار خارج القاهرة.
في سلسلة أدباء خارج الترند، نحاول تقريب المسافة بين هؤلاء الكتاب المميزين، و جمهور القراء، وإلقاء الضوء على منتوجهم الأدبي، وإبداعاتهم المختلفة، رغم عدم تربعهم على قوائم الأكثر مبيعا.
في عام 2018 صنع الكاتب الروائي ماجد طه شيحة حالة من الجدل بعد إعلانه اعتزال الكتابة عبر حسابه الشخصي على موقع فيس بوك، قوبل قراره بردود أفعال متناقضة، التزم حينها الصمت تماما، ثم فاجأ الجمهور بإصدار روايته الأخيرة “المعبر” بعدها بعدة أشهر، ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب يناير 2019م، وجاءت ردود أفعال القراء والنقاد إيجابية ومبشرة للغاية، إلا أن ذلك لم يغير من الوضع شيئا، فمازال الكثيرون لا يعرفون من هو ماجد طه شيحة.
ماجد طه شيحة، من مواليد محافظة كفر الشيخ عام 1978. تخرج من كلية الهندسة جامعة المنصورة عام 2002، قسم الهندسة الميكانيكية، ويعمل كمدير صيانة هندسي، بشركة الدلتا للسكر، أو ما يعرف بمصنع سكر البنجر بمحافظة كفر الشيخ.
صدر له 5 أعمال أدبية، عبارة عن مجموعة قصصية كانت باكورة إصداراته من دار دون للنشر بعنوان “كل الحبال الرديئة” عام 2011، وصدرت طبعتها الثانية عام 2018 بعنوان “الحكاية المجهولة من بلاد العصافير” في تعاون مشترك بين داري بردية وأجيال بعد إضافة قصة جديدة. أيضا صدر له 4 روايات، سلفي يكتب الروايات سرا عام 2014، درب الأربعين عام 2016، إيلات عام 2018 والمعبر عام 2019.
يتميز ماجد طه بامتلاكه لقاموس مفردات لغوية غني جدا، مما أكسب أسلوبه الأدبي شخصية مستقلة خاصة به، أيضا يظهر تميزه بشدة في الأفكار المبتكرة عموما، فكل عمل من أعماله مختلف بشدة عن الآخر، من حيث الفكرة والبناء والأسلوب، كما أنه يظهر تحكما شديد البراعة، في تكوين الجمل المجازية، والاسقاطات غير مباشرة، على الأحداث العامة واليومية، دون شرح واضح زائد عن اللزوم، أو غموض شديد الغرابة والتعقيد، ويترك المساحة للقارئ، ليشاركه أفكاره وهواجسه.
في روايته الأولى، سلفي يكتب الروايات سرا، فاجأ ماجد طه القراء بإسقاط بعضا من أحداث روايته على واقعه الشخصي، فالكاتب معروف عنه انتمائه للمذهب السلفي، وبين محاولة موازنته لانتمائه، وحبه للكتابة والأدب، يشعر أن بداخله شخصيتان تتشاكسان، كل شخصية تريد أن تطغى على الأخرى، وتجذب صاحبها إليها، وهو ما بين تلك وتلك، يحاول البحث عن ذاته، والوقوف على حقيقته وما يرغب فيه.
روايته الثانية، درب الأربعين، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، انتهجت نهجا مختلفا، حيث اعتمدت على رحلة البحث عن الحقيقة، بأجواء صوفية، وإثارة التساؤلات، عن الإيمان والتسليم، وصبغ الكاتب تساؤلات البطل أثناء رحلته بصبغة فلسفية، وخلط الواقع بالفانتازيا حتى ليظن القارئ أنه في عالم موازي، غير واقعي، إلا أن تطور الأحداث يعود به للواقع مرة أخرى، وتستمر الرحلة حتى نهاية الرواية.
في روايته الثالثة، إيلات، الصادرة عن دار كيان، يستعيد ماجد طه إرثه الديني، لكن من زاوية جديدة، ويتوغل داخل منطقة شديدة الحساسية، مليئة بالعوائق، ويقدم للقارئ نصا شديد الرمزية، تصورا عن عالم خيالي، فالمصاحف رفعت، والأحرف محيت من القرآن، في إشارة واضحة لاقتحام الكاتب لنوع أدبي شهير، يعرف بأدب المدينة الفاسدة، أو أدب الديستوبيا. تتركز دعائم ذلك النوع الأدبي على جملة أسس لها الأديب الشهير “ساراماجو” في رواياته وأعماله الأدبية، مفضلا إضفاء الرمزية على كل تفاصيل الرواية، من شخصيات وأماكن ومسميات، مما يجبر القارئ على إعمال عقله لمسايرة الأحداث، وحتى لا يصاب القارئ بالارتباك، يحاول دائما البحث عن المعنى، ومشاركة الكاتب رحلته. عمل حاز على دهشة القراء قبل إعجابهم، ودعا البعض منهم للتهكم على من كان ينادي بأن الأدب المصري أصبح في حالة متأخرة، ولا يوجد على الساحة من يستحق لقب كاتب، من جيل الشباب.
أعلن ماجد طه اعتزاله الكتابة بعد صدور رواية إيلات بعدة أشهر، مما مثل حالة كبيرة من الدهشة والارتباك لدى جمهوره من القراء، فبعد نجاح روايته المبشر، وتناول القراء والنقاد لها بالتحليل والنقاش، كان ذلك بالنسبة إليهم قرارا غير منطقي، وكعادة الكاتب، لم يدل بتصريح أو تفسير لقراره، والتزم الصمت تماما، فساعد ذلك في انتشار الإشاعات، كان أكثرها مدعاة للسخرية، أنه لم يستطع مقاومة خلفيته الدينية، واعتزل الأدب درءا للشبهات، إلا أنه صرح مؤخرا، بأن السبب في ذلك القرار حينها، أنه ظل لمدة 7 أشهر، عاجزا عن كتابة كلمة واحدة في أي عمل جديد، مما أحبطه بشدة.
أما روايته الأحدث، المعبر، الصادرة عن دار كيان، انتهج الكاتب أسلوب الراوي العليم، ليروي عن موظف يتحكم في مصائر الآخرين، حيث يتواجد على معبر يربط بين الشرق والغرب، وهو الآمر الناهي الوحيد الذي له سلطة السماح للأشخاص بالمرور أو الرفض، منتجها في ذلك النهج العكسي لروايته السابقة، وتناول أدب المدينة الفاضلة، فالأشخاص يرغبون في عبور الجسر للبر الآخر، أملا في الحصول على حياة أفضل وواقع أرقى. استلهم فكرة الرواية أثناء انتظاره في طابور قبول وظيفة تقدم لها عام 2003، كما صرح في حواره لجريدة الدستور، عقب صدور الرواية.
كعادته في كل عمل جديد، يحاول ماجد طه تقديم فكرة مختلفة، والسير في طريق لم يمش فيه الآخرون، أملا في جذب انتباه القارئ، وعارضًا بضاعته برونق ظاهر، وحلة بهية، قوامها اللغة القوية الآسرة، والسرد المتماسك، والتشبيهات غير المباشرة، فماجد طه ليس من نوعية الكتاب الذين يكتبون على هوى الجمهور، بل يكتب ما يستحوذ على تفكيره، ويعتز بعقلية القارئ ويحترمها بشدة، ويأخذه بصحبته في رحلة غنية بتفاصيلها، وأسئلتها، مما يجعلها شاقة بعض الشيء أحيانا، إلا أنها تظل رحلة ممتعة بلا شك، وغير قابلة للنسيان على الإطلاق.