أحمد أسامة
كثيرا ما نسمع أو نقرأ أن الكتاب المشهورين الأجانب في لقاءاتهم الصحفية يصرحون بأن الكتابة هي مهنتهم، هي مصدر رزقهم الذي يعيشون منه. يكون ذلك في أغلب الأحيان بعد أن تكون كتاباتهم قد تربعت على رأس قوائم الأكثر مبيعا، وحققت لهم الكثير من الرضا، وتحقق الذات، إلا أن الوضع يختلف قليلا في العالم العربي، نظرا لقلة معدلات القراءة عن نظيرتها في الغرب، أيضا تفاوت المستوى المعيشي في الدول العربية، مما يجبر القراءة واقتناء الكتب على التقهقر إلى مرتبة السلع الكمالية والترفيهية، نظرا لمحدودية الدخل الشهري وارتفاع تكاليف المعيشة.
كل ذلك وأكثر، جعل الكثير المهتمين بالكتابة الأدبية، لا ينتظرون الكثير من العوائد المادية، ولا يعتمدون عليها كمصدر رزقهم، جراء انخراطهم في ذلك المجال، وينظرون إلى الكتابة على أنها هواية يحبون ممارستها، ويمتهنون مهنا أخرى كمصدر رزق أساسي يعيلون منه أنفسهم وأسرهم، رغم جودة منتوجهم الأدبي، وإشادة النقاد بما تخطه أقلامهم، وعدم تواجد أغلبهم في القاهرة، وانتمائهم لأقاليم مختلفة، لم يتسنى لهم التواجد باستمرار في المحافل الأدبية المتعددة، مما كان سببا في عدم تسليط الأضواء عليهم، ورغم التطور التكنولوجي المتسارع، واحتلال منصات التواصل الاجتماعي لحيز كبير في حياتنا اليومية، ودورها المتنامي في تسهيل التواصل بين الجميع، إلا أن هؤلاء الأدباء مازالوا خارج الترند، إما لرغبة بعضهم في البعد عن الأضواء وصخب القاهرة، أو التزام البعض الآخر بمسئوليات حياتية ومعيشية، تضطرهم إلى الاستقرار خارج القاهرة.
في سلسلة أدباء خارج الترند، نحاول تقريب المسافة بين هؤلاء الكتاب المميزين، و جمهور القراء، وإلقاء الضوء على منتوجهم الأدبي، وإبداعاتهم المختلفة، رغم عدم تربعهم على قوائم الأكثر مبيعا.
طبيب وروائي مصري، من مواليد وقاطني محافظة الإسكندرية. ولد يوم 10 أكتوبر عام 1958، وتخرج من كلية الطب جامعة الإسكندرية عام 1981م متخصصا في طب الأمراض الجلدية والتناسلية، حصل على درجة الماجستير في نفس التخصص عام 1986م، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية متخرجا من قسم الفلسفة عام 1992م.
عمرو عافية محب للفنون بشتى أنواعها، موسوعة فنية متنقلة، على اطلاع شامل بكل ما يمت للسينما والموسيقى والأدب العالمي بشكل عام، متذوق بدرجة عاشق، صنع لنفسه عالما خاصا أشبه بفقاعة زمنية متنقلة، يحيا بداخلها ويسعى جاهدا لأن تحيا تفاصيل تلك الفقاعة داخله وتتخلل وجدانه، وتأكيدا على موهبته الأدبية المميزة، كتب الأستاذ والكاتب الصحفي الشهير “محمد سلماوي” مقدمة عمله الأدبي الأول “الماء الحرام” والتي صدرت في أوائل التسعينات.
قد يبدو اسمه غير مألوف بعض الشيء، إذا استخدمت محركات البحث للوصول إلى معلومات عنه أو التواصل معه أو مشاهدة لقاءات تمت استضافته فيها فقد تندهش، فلن تجد له أي تواجد على أية منصة من منصات التواصل الاجتماعي، وسيكتفي محرك البحث بوضع عنوان عيادته ورقم هاتفها ضمن النتائج الأولى للبحث، ثم تتوالى نتائج متفرقة عن روابط لأعماله الأدبية على الموقع الشهير جودريدز، ولقاء تلفزيوني واحد فقط حين استضافه الإعلامي خالد منصور ضمن فعاليات برنامجه الثقافي عام 2019م للحديث عن رواية “أطرمن فراغ” أحدث إصداراته الأدبية حينها.
بدأت مسيرة عمرو عافية مبكرا مع الأدب والإبداع، صدرت مجموعته القصصية الأولى “الماء الحرام” عن دار ألف عام 1991م، ثم توقف لفترة طويلة نسبيا إلا أنه عاد مرة أخرى وصدرت روايته ” حد الغواية” عن دار ميريت عام 2004م، واستمر التعاون مع دار ميريت في عام 2006م فصدرت له رواية “قصة حب أكتوبرية”، أتبعها برواية “رقصات الرؤى المشوشة” مع دار شرقيات عام 2007م، واستمر التعاون مع دار شرقيات فصدرت له رواية “عربيد عشق آباد” عام 2009م، ورواية “حرية سليمان” عام 2014م، ثم صدرت له رواية “منزل بلا أساطير” عن دار الكتب خان عام 2018م، وأخيرا وليس آخرا صدرت له رواية “أطر من فراغ” عن دار العربي للنشر عام 2019م.
المطلع والمتابع لمشروع عمرو عافية الروائي يلاحظ اهتمامه الشديد بالأفكار الفلسفية والأحاسيس الروحية التي تحمل تأثرا كبيرا باللمحات الصوفية، أيضا محاولاته الدائمة لدمج الفلسفة مع العلم، وهذا يظهر جليا أيضا في دراسته الأكاديمية للفلسفة كما أسلفنا سابقا، والتي تضمنت دراسة فلسفة العلوم كأحد فروع علم الفلسفة المتشعب. هذا الفرع يهتم بدراسة الأسس الفلسفية والافتراضات والمضامين الموجودة ضمن العلوم المختلفة، بما فيها العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا مثل علم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية.
والعلوم الاجتماعية فهي تبحث عن أشياء مثل: طبيعة وصحة المقولات العلمية، طريقة إنتاج العلوم والنظريات العلمية، طرق التأكد والتوثيق من النتائج والنظريات العلمية، صياغة وطرق استعمال الأساليب العلمية المختلفة أو ما يدعى بالمنهج العلمي، طرق الاستنتاج والاستدلال التي تستخدم في فروع العلم كافة، وأخيرا تضمينات وتأثير هذه المقولات والطرق والمناهج العلمية على المجتمع بأكمله وعلى المجتمع العلمي خاصة.
أيضا تضمنت أعمال عمرو عافية الإبداعية مناقشة أفكار وموضوعات متعددة يتضح منها أنها قد تكون ذات صبغة ذاتية وتجارب شخصية مر بها في مراحل مختلفة من حياته، موضوعات مثل الفقد والهجران، الحب من طرف واحد، غربة النفس والتي لا تشمل بالضرورة السفر والاغتراب المكاني. كل هذه الموضوعات تكون مدمجة بأسلوب سردي مغرق في العذوبة والسلاسة، فلا يعتمد على الحوار إلا فيم ندر، مع الفكرة الفلسفية العامة للوصول إلى إجابات شافية يعتقد أنها قد تشغل بال القارئ، أو تشغله هو شخصيا بالأحرى، إلا أنه يود أن يشاركه القارئ رحلة البحث، لعل وعسى أن يصل أحدهما إلى إجابة شافية.
أكثر ما يتميز به عمرو عافية تنوع موضوعات رواياته، قد تكون الأفكار عاملا وقاسما مشتركا في كل أعماله، إلا أن الموضوعات دائما ما تكون متنوعة وغير مكررة، في مجموعته القصصية الأولى كان حريصا وواضحا في عرض أفكار محددة عن الوحدة بم أنها كانت أول أعماله الأدبية. أما في عمله الروائي الأول “حد الغواية” تناول قصة حب تحدث في السبعينات بين يهودية ومسلم، ظهر من خلالها محاولة كسره للصورة النمطية السائدة عن اليهود في مصر، كما جعلها مدخلا للعودة بالزمن لأجواء فترة ما بين الخمسينات والسبعينات، وإلقاء الضوء على أحوال المجتمع المصري حينها وأماكن ومدن أخرى خارج مصر أغلب الظن أنه قام بزيارتها في ذلك الوقت ومازالت مشاهدها منطبعة في ذاكرته. أشاد كثير من النقاد والقراء بذلك العمل ووصفوه بأنه خريطة شاعرية عن فترة زمنية تحمل الكثير من الذكريات والأحداث التاريخية المصيرية والتي ساهمت في تشكيل وجدانهم ووعيهم الثقافي.
في عمله الروائي الثاني “قصة حب أكتوبرية” يناقش عمرو عافية إشكالية الحب من طرف واحد، أمر قد يصل إلى مرحلة الهوس والتعلق لأقصى حد، يمتلك ذلك الطرف مشاعر هائلة لكنه يعلم أن الطرف الآخر لا يبادله نفس القدر من تلك المشاعر. غلف الكاتب ذلك الموضوع بإطار بديع وفكرة مبتكرة، على لسان طفل يعتقد أنه يكثر من الكذب لكنه يقرر أن إحصاء عدد الأكاذيب التي يتفوه بها يوميا لمعرفة مقدار السوء الذي وصل إليه، وهل لديه القدرة على تحمل الحياة دون الاضطرار إلى الكذب، أم أن اللجوء إلى الكذب في بعض الأحيان هو وسيلة من وسائل النجاة في الحياة أحيانا؟
أما في رواية “رقصات الرؤى المشوشة” تناول أفكار العدمية والخلاص والتضحية، اعتمد فيها على الحوارات الفلسفية والروحانية بين الشخصيات كبناء أساسي، وهذا ما يميز ذلك العمل عن باقي أعماله التي تعتمد على الأسلوب السردي كما ذكرنا قبل ذلك. أيضا عرض تفسيرات مختلفة لبعض التصرفات التي قد يراها البعض بمنظور اعتيادي، فالتضحية في سبيل أحدهم ليست بالضرورة أن تكون من أجل إسعاده أو مساعدته فقط، بل لها وجه آخر يتمثل في أنها قد تكون خلاصا للشخص المضحي وراحة له في الأساس. كما أنه يثير تساؤلا في غاية الأهمية عن نتيجة تلك التضحية في الجانب المقابل، وأنها ليست بالضرورة أن تكون نتيجتها إيجابية أبدا!
في رواية “عربيد عشق آباد” اعتمد الكاتب على أسلوب جديد في الكتابة، أسلوب الحضور الفكري في الصورة، وهو مصطلح اتفق النقاد على إطلاقه على الأعمال الأدبية على اختلاف أنواعها، والتي تتخذ من الصورة وليس الكلمة، نموذجا لعرض فكرة فلسفية ما ومناقشتها عن طريق تفكيك الصورة وتحليل رمزية تفاصيلها ومكوناتها، وإسقاط تلك الأفكار التي حملت نزعة صوفية واضحة عن مفهوم الحب في المجمل على الواقع العام والحالي. وقع اختيار الكاتب على مدينة “عشق آباد” عاصمة دولة تركمانستان، نظرا لتميزها لاحتوائها على بعض المواقع المتفردة والتي ليس لها مثيل عالميا، كما أنها تعتبر مركزا ثقافيا هاما بزغ نجما في القرن التاسع عشر، ومساهمتها الفعالة في الحراك المسرحي في منطقة وسط آسيا.
أما في رواية “حرية سليمان” تناول عمرو عافية موضوعا غاية في الأهمية، مضمونه في سبيل البحث على الحقيقة والوصول إليها، هل لا بد من وجود دليل أو مرشد حتى يأخذ بأيدينا وينير لنا الدرب ويكون عونا لنا؟ أم أنه من الأفضل أن نسلك الطريق كاملا بلا أي مساعدة ونخوض التجربة كاملة وتحمل كافة ما قد تسببه تلك التجربة من نتائج سلبية كانت أو إيجابية. أيضا تناول إشكالية الوقوع بين سندان تأثير الأسطورة والوقوع في براثنها، مع محاولة اللحاق بركب الحداثة والتطور. أيضا يضع يديه على إشكالية هامة أخرى، وهي أن خوض التجربة ليس بالضرورة أن يكون معيارا للحصول على إجابة في النهاية، فمن الوارد بشدة عدم الحصول عليها بعد كل ذلك. أيضا تنوع في مراجعه لاعتماده على الرمزيات لتفكيك وتأصيل علاقة الانسان بالفن على الأساطير الشرقية والغربية، والتراث الحضاري القديم فيهما، فاقتبس من الأساطير الغربية متمثلة في الحضارة الاغريقية، والأساطير الشرقية متمثلة في الحضارة المصرية القديمة، واقتبس من الفن الغربي فن “الأوبرا”، ومقابلها “الغناء الشرقي” ممثلا في صوت ليلى مراد كاقتباس من الفن الشرقي.
في رواية “منزل بلا أساطير” يناقش الكاتب فلسفة الوحدة والعزلة، أيضا فلسفة الكلمات ومرادفاتها والعودة إلى أصولها اللغوية، كذلك التركيز على فكرة أصول الأشياء وعدم الاهتمام بمظاهرها، شيء أقرب إلى التجريد نوعا ما والعودة إلى أصول كل الأشياء مهما كان ظاهرا منها أنها عادية لا شيء مميزا فيها، وبموقف بسيط، تتداخل تلك الفلسفة مع شخصية البطل نفسه وتنعكس على مكنونه ودواخله الشخصية، ومن خلال المواقف المتعددة التي يتعرض لها البطل ورحلة بحثه على مبتغاه، تتسع الدائرة أكثر وأكثر، لتتضح معالم أو الفكرة الأساسية من الرواية، وهي محاولة الوقوف على فلسفة الحياة، وأن كل ما يبدو أنه عادي، يحمل في الحقيقة معان كثيرة وجمة.
أما في روايته الأخيرة “أطر من فراغ” والتي تعد أكثر أعمال الكاتب عمقا وأشدها غوصا داخل شخصياتها وعوالمها، وأكثرها حساسية ورهافة وحزنا، بدءا من الإهداء لروح شقيقته الراحلة، ومرورا بحكايات الأبطال وعلاقاتهم الرومانسية وحبهم النقي. دمج الكاتب فلسفة الشخوص بفلسفة العلوم، واختار علم الفيزياء ليضع شخصياته داخل عوالم متوازية، محاولا دفعها لمعرفة الأكثر عن أنفسهم، ومناقشا لفلسفة الحب والعشق، بأسلوبه السردي المعهود ذو اللمحة الصوفية. اختار لها عنوانا شديد التميز والاتقان، فكل شخصية في الحياة لها إطارها، لا فرق بين إطار اختياري أو إجباري، إلا أن هذه الأطر ليس ثابتة، ليست جامدة، وتتغير باستمرار مع الزمن.
عمرو عافية كاتب من طراز رفيع، يدرك أن هناك فلسفة أيضا للأدب، يحترف استخدام أدواته الأدبية ويتنوع بها من عمل إلى آخر، يحتار القارئ والمتابع لأعماله بعض الشيء إذا ما أراد الوصول إلى ما يعتمل داخله نفسه وعقله، أو الوقوف على فلسفته في الحياة، إلا أنه في النهاية، لن يصيبه الكلل أو السأم أبدا عند قراءة أعماله، بل سترتسم على شفتيه ابتسامة، تعبر عن مدى إعجابه، ودهشته في نفس الوقت، أن هناك قلما يعيش بيننا، يكتب بمثل تلك العذوبة والدقة.