أندرو محسن أندرو محسن أندرو محسن أندرو محسن أندرو محسن
كان من المفترض أن تكون السطور التالية هي محاولة لتحليل فيلم “أصحاب ولا أعز”، للمخرج وسام سميرة، وأول الأفلام العربية من إنتاج منصة نتفليكس. لكن الجدل الكبير الذي أثير مع عرض الفيلم، والهجوم على صناعه وأبطاله، التي وصلت إلى حراك على مستوى مجلس النواب، بات الكلام عن الفيلم من الناحية الفنية كما هو معتاد وربما مطلوب شيئًا من الرفاهية، وصار الحديث عن التداعيات غير الفنية وردود الأفعال الثائرة ضد مشاهد بعينها هي الضرورة الآن.
هذا الهجوم على الفيلم أصبح مكررًا في الفترة الأخيرة، شاهدناه خلال العام الماضي مع عرض عدد من الأعمال الفنية، بشكل يجعل عملية الإبداع كأنها مخاطرة كبيرة غير محسوبة، إلا إذا كانت داخل قالب محدد وتقدم أفكارًا بعينها. المميز في الحملة التي قامت ضد الفيلم المذكور، هي أنها تقريبًا جمعت كل ما أثير بشكل منفرد عن أفلام سابقة، وكتلتها في قالب واحد ضد هذا الفيلم.
من هنا صار التعامل مع ما كتب وأثير ضد “أصحاب ولا أعز” بمثابة نظرة دقيقة على ما وصل إليه التعامل مع السينما والإبداع عمومًا في السنوات الأخيرة.
بالنظر إلى الأعوام الأخيرة، سنجد أنه سنويًا يعرض حوالي 30 فيلمًا مصريًا جديدًا. أغلب هذه الأفلام هي أفلام تجارية، تحتل الشريحة الأكبر منها الأعمال التي تنتمي لأنواع الكوميديا والأكشن والتشويق. بعضها جيد وممتع بالفعل، والكثير منها يبتعد تمامًا عن الجودة. هذه الأفلام هي التي تحصد الإيرادات والتي يقبل عليها الجمهور.
من بين الأفلام الثلاثين، سنجد عددًا ربما لا يتعدى أصابع اليد الواحدة من الأفلام الفنية (Art-house films) أو كما نطلق عليها أو على بعضها في مصر: الأفلام المستقلة. هذه الأفلام في الغالب تعرض في عدة مهرجانات، قبل أن تُعرض في مصر لأسابيع قليلة جدًا، ربما أسبوع أو اثنين في بعض الحالات، جامعة إيرادات لا تتجاوز المليون أحيانًا.
هذه الخريطة السابقة يعرفها الكثيرون بالفعل، الأزمة هنا أن هناك من يشاهد عددًا من الأفلام التجارية أو الجماهيرية، والتي تشكل الشريحة الأكبر من الأفلام بالفعل، ويرفض أن تكون هناك أفلام أخرى مختلفة عما يجب مشاهدته. يرفض أن تكون هناك شخصيات أخرى تختلف عما اعتاده.
أزمة “أصحاب ولا أعز” أنه يجمع ممثلين يعرفهم الجمهور جيدًا، اعتادوا تقديم الأفلام والمسلسلات التي تحظى بجماهيرية، لكنهم في هذا الفيلم قرروا تقديم فيلمًا ذو طابع فني يختلف عما اعتاده جهمورهم، وهنا ثار الغضب عليهم. وكأن الممثل يجب أن يقدم نفس نوع الفيلم ونفس الشخصية للأبد.
أمر غير مفهوم وصاية بعض المشاهدين على كل ما يقدم، رغم أنهم ببساطة يمكنهم تجاهل هذه الأفلام التي لا ترقى لذوقهم، فربما هي ترقى لذوق آخرين، لكن الأكثر طرافة هو أن يفرض المشاهد على الممثل الأدوار التي يقدمها، والمشاهد التي يجب أن يبتعد عنها!
تهمة أخرى يواجهها الفيلم وأفلام أخرى، هي أنها لا تعبر عن الواقع، أو “لا تشبهنا”. يحتاج قائل هذه التهمة إلى إعادة النظر في رؤيته للسينما، فليس من المطلوب من السينما أن تنقل الواقع، بل حتى الأفلام المأخوذة عن وقائع حقيقية أو عن سِيَر شخصيات مشهورة، يتدخل صناعها فيها بتغيير بعض الأحداث وفقًا لما تقتضيه الدراما. نحن نحيا الواقع خارج شاشة السينما، فما الداعي أن نشاهده كما هو عليها؟
لا يعني هذا أننا نلغي “الأفلام الواقعية” والتي قُدمت ولا زالت تُقدّم في عدة دول، واشتهرت في مصر في الثمانينيات وبداية التسعينيات مع جيل من المخرجين أطلق عليهم “جيل الواقعية”، لكن حتى هذه الأفلام التي توصف بالواقعية ليست خالية من رؤية درامية. ليست أفلامًا ترك صناعها الكاميرا في الشارع لتصور ما يحدث عدة أيام ثم عرضوه، وأثق أنه لو أقدم أحدهم على فعل شيء مماثل فستكون النتيجة غالبًا أقسى من أن تعرض.
يستمتع الكثير من المشاهدين بمشاهدة إطلاق النار وانقلاب السيارات والتعاويذ السحرية، في حين يرفضون أن يشاهدوا فيلمًا به بعض الفقراء أو أشخاصًا يتلفظون ببعض الشتائم أو شخصيات مثلية، لأن هذا “لا يشبهنا”، فهل السيارات المقلوبة تشبهنا؟
عُرض فيلم “قمر 14” من إخراج هادي الباجوري للمرة الأولى في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الماضية. لم أكن ممن شاهدوا العرض الأول للفيلم، وحاولت معرفة ردود الأفعال ممن شاهدوه. كان هناك ردًا سمعته من الكثيرين، ليس رأيًا عن الفيلم لكن عبارة محددة: “الفيلم فيه بوسة”!
كان تداول هذا الأمر ليس من باب الامتعاض، بل من باب الدهشة الممزوجة بفرح، بعد سنوات من السينما التي أُطلق عليها “نظيفة” واختفاء أي مشاهد حسية من السينما المصرية تقريبًا، إلا في بعض الأفلام النادرة، إلى الحد الذي جعل المخرج والسيناريست أحمد عامر يقدم فيلمه “بلاش تبوسني” والذي يتناول فيه بشكل ساخر فكرة اختفاء القبلات من الأفلام المصرية.
في اتفاق ضمني بين المشاهد وصناع السينما النظيفة، انحصرت “النظافة” في اختفاء المشاهد الحسية أو القبلات من الأفلام، مهما اقتضت ضرورة المشهد، لكن لا مشكلة في استخدام بعض الألفاظ أو الإشارات الموحية جنسيًا، والتي يدرك المشاهد دلالتها تمامًا، بل لا مانع أيضًا من استخدام بعض الشتائم بالإنجليزية، والتي أيضًا يدرك المشاهد معناها، وقد يضحك عندما يسمعها بالإنجليزية، لكن حذار من أن تتلفظ بها كما تقال في الشارع. في المقابل يمكن لهذا المشاهد نفسه مشاهدة كل شيء صريح في الأفلام الأجنبية، عملًا بمبدًأ: ليقبل ممثليهم بعضهم، أو يظهروا في مشاهد جنسية، وليتبادلوا هم الشتائم، لكن ليس نحن.
هكذا انتفض المشاهد الذي يقبل بالتلميح ويرفض التصريح، عندما شاهد مريم (منى زكي) في بداية “أصحاب ولا أعز” تنزع ملابسها الداخلية وتضعها في حقيبة يدها، وتصرح لاحقًا أنها لم تمارس الجنس مع زوجها من سنة، وأطلق حملة شديدة الشراسة على منى زكي، وعلى زوجها أيضًا الممثل أحمد حلمي، لأنه سمح لها بأداء مثل هذه المشاهد!
تعد هذه الثمار الواضحة للمتاجرة عدة سنوات بمصطلح “السينما النظيفة”، وأنها أفلام مناسبة لجميع أفراد الأسرة، في حين أن الكثير منها لم يكن مناسبًا للأطفال مثلًا، وفي الوقت نفسه يتجاهل هؤلاء أن ليس كل الأفلام يجب أن تكون مناسبة لجميع أفراد الأسرة، ولا أن تكون موجهة لكل فرد في المجتمع في نفس الوقت، وأن “أصحاب ولا أعز” كان يحمل في بدايته تحذيرًا واضحًا بأنه غير مناسب لأقل من 18 سنة.
خلال اليومين الماضيين، ظهرت الكثير من المنشورات على فيسبوك، تذكر أفلامًا مصرية قدمت أغلب ما هاجمه المشاهدين في “أصحاب ولا أعز” وربما أكثر، أفلامًا ضمت شخصيات مثلية ومشاهد قبلات وحوارات عن العلاقات الجنسية.
أتوقف عند فيلم “مرسيدس” للمخرج يسري نصر الله، إنتاج سنة 1993، الذي لا نجرؤ أن نحلم بمشاهدة مثله الآن. ضم الفيلم أحد أبرز نجمات هذا الوقت، يسرا، احتوى على مشاهد حسية، وضم الكثير من الكلام عن الحب والجنس، وشاهدنا فيه شخصيات مثلية.
لو شاهد مهاجمو “أصحاب ولا أعز” فيلم “مرسيدس”، لقاموا عليه بنفس الصورة وهاجموه كما فعلوا مع “أصحاب ولا أعز” وربما أكثر. لكن بعد مرور قرابة 30 سنة على عرض “مرسيدس”، لم نشاهد أنه هدم ثوابت المجتمع، أو أنه مُنع من العرض لأنه لا يتوافق مع كتالوج بعض المشاهدين، بل إن الفيلم يزداد شبابًا وجمالًا بعد كل هذه السنوات، وسيظل أحد أهم أفلام السينما المصرية.
كنت أود أن أقول أن بعد 30 سنة أخرى كل ما سيبقى هو الفن الجيد، لكن مع تصاعد الكثير من الأصوات المهاجمة والمقاومة لكل عمل فني مختلف، أخشى أننا لن نجد ما نكتب عنه بعد 30 سنة.