أحمد عمر
شاهدتُ فيلم “مأساة ماكبث The Tragedy of Macbeth” من بطولة العملاق دينزل واشنطن، فاستعدتُ شريطًا جميلًا من الذكريات؛ تذكرتُ أول مرة درستُ فيها المسرح، وكتاب Elements of Drama ومسرحيات شكسبير الأصلية، والبحث بين كتب مكتبة كلية الألسن في الطابق الأخير من مبناها الشاهق. تذكرت نفسي وأنا أردد عبارات ماكبث بإنجليزية بريطانية (كنتُ وما زلت أحرص عليها عند قراءة النصوص) في كل مناجاة (مونولوج).
ورغم أن “هاملت” هي مسرحيتي المفضلة دائمًا وأبدًا، لكن ولعي بمسرحيات شكسبير لا تنطفي جذوته.
قرأتُ النص الأصلي لـ”ماكبث” بإنجليزيته الكلاسيكية قبل 19 سنة تقريبًا (السنة الأولى أو الثانية بكلية الألسن، جامعة عين شمس)، وشاهدتُ المسرحية فيلمًا سينيمائيًا قديمًا منذ سنوات طويلة، وقبلها استمتعتُ بمشاهدتها في عرض حيّ على مسرح الجامعة الأمريكية بالفلكي (2003)، وكان عملًا غاية في الجمال والدهشة والروعة، وقبل كورونا شاهدتُ “ماكبث” في عرض أوبرالي إيطالي بالأوبرا السلطانية مسقط.
لكن في الحقيقة زادت مُتعتي وانبهاري بهذا الفيلم الجديد الذي أنتجته شركة أبل عبر منصتها الخاصة “أبل TV”.
وهذا يقودنا لتسليط ضوء كاشف على ما تحدثه المنصات الترفيهية من تأثير كبير، من خلال إتاحة المجال أمام المشترك لمشاهدة ما يروق له من أعمال، وإنتاجها بجودة تنافس تلك المعروضة في دور السينما. لكن في الوقت نفسه، سمحت هذه المنصات الرقمية للجمهور بإبداء رأيه بقوة أكبر، الأمر الذي يشير إلى نقلة في آلية تفاعل الجمهور مع الأعمال الفنية المقدمة، ولنا في فيلم “أصحاب.. ولا أعزّ” خير مثال.
عودةً إلى “ماكبث”، ومنذ الدقيقة الأولى وحتى نهاية الفيلم، شعرتُ أنني في قاعة المسرح بكل تقنياتها ومؤثراتها؛ حيث نجح مخرج العمل ومدير التصوير وهندسة الصوت وكل طاقم هذا العمل الرائع في أن يضع المشاهد داخل إطار مسرحي بحت، بعبقرية سينمائية قلَّت مثيلاتها.
لم أضبط كاميرا المخرج تتوسع خارج الإطار وزاوية الرؤية التي قد يراها المتفرج داخل قاعة المسرح، باستثناء مشهد الساحرات وهن يطرن في السماء المُلبدة بضباب كثيف وثلوج، غير ذلك ظلت الكاميرا بزاوية تركيز مركزية جدًا.
إحدى عبقريات الفيلم أنه بالأبيض والأسود، وهو تكنيك ساعد في تعزيز الشعور بالأجواء المسرحية؛ حيث عادة القاعة مُظلمة والإضاءات موظفةٌ في خدمة الأحداث التي غلب عليها الطابع الحزين الكئيب، بجانب المؤثرات البصرية، لكنني أزعم أن هندسة الصوت والمؤثرات السمعية كانت الأكثر تميزًا، مثل أصوات الساحرات، ورفرفة أجنحتهن، وصريخهن وأصوات غوايتهن لماكبث. أيضًا صوت الأسلحة مثل السيوف والخناجر؛ حيث يُسمع صوتها وهي تُستل من أغمادها. وكذلك دقات الطبول، خاصة في المشهد الأكثر شهرة، عندما يُقرع باب قصر ماكبث بعد قتل الملك بدم بارد، فيهتز قلب ماكبث ويرتعد خوفًا من انكشاف أمره مع كل قرعة، وكأنها نبضات قلب ماكبث من شدتها تُصدر هذا الصوت المخيف.
“ليدي ماكبث” زوجة ماكبث أدت دورًا مميزًا بفضل ملامح وجهها الحادة وشعرها المصفوف وكأنه تاجٌ، في إشارة إلى أنها خططت ودبرت وتآمرت وساعدت ومهدت الطريق وهيأت نفسية ماكبث كي يصير ملكًا وتصير هي ملكة.
أما دينزل واشنطن فقد أدى دور ماكبث بكفاءة مذهلة، وكأن شكسبير جلس مع واشنطن وشرح له نفسية ماكبث الطمّاعة التي خضعت لغواية الساحرات وقرر تحقيق نبوءاتهن، مهما كلفه الأمر من زهق أرواحٍ. نجح واشنطن في تقمُّص شخصية ماكبث بذكاء، وساعده في ذلك بنيانه الجسدي، ليعكس هيبة المُقاتل صاحب الانتصارات المجيدة. لم يغفل دينزل واشنطن أن يوظِّف نبرات الصوت وطبقاته، وهذه منطقة يُجيدها بشدة، فرغم النبرة اللطيفة المعتدلة لواشنطن في معظم أعماله، إلا أنه أدخل تعديلات عليها لتبدو أكثر رَخامةً وعمقًا، عطفًا على توظيف الهمس وارتفاع وانخفاض مستوى النبرة، لا سيما في مشاهد المناجاة.
زوايا التصوير كما ذكرتُ اتسمت بإبداع مُلفت؛ حيث التركيز على جوهر المشهد دون إضافات تُشتت نظر المشاهد، تمامًا كما على خشبة المسرح؛ إذ لا مجال لرؤية مناظر خارجية أو تفاصيل خارج الإطار الذي يجمع البطل/ الأبطال.