عمرو منير دهب
تذمَّرَ الخبيرُ السويسري في تركيب وفحص أجهزة الوقاية والتحكم في المحطات الكهربائية من تعنّت بعض المهندسين العرب والتردد في قبول بعض المواد نتيجة لما ارتابوا فيه من عيوب صناعية محتملة وإن تكن طفيفة بإقرار الجميع. أمام الإلحاح المتواصل في تهذيب رضخ الخبير السويسري وبادر إلى الشروع في التغيير الذي يستدعي تأخيراً لم يكن الجدول الزمني لأعمال المشروع ليحتمله بالنظر إلى التأخير الحاصل بالفعل والذي يعزوه الخبير إلى “تعنّتات” مماثلة من المهندسين العرب أصحاب المشروع، وأحياناً إلى عدم التزامهم بمواعيد العمل اليومية بما يعتبر خرقاً جسيماً لآداب التعامل – فضلاً عن الاحترافية – وفق المعايير السويسرية، وبما لم يكن يعيره العرب قبل عقدين كبير اهتمام.
شرع إذن الخبير السويسري في تغيير المواد وهو لا يخفي تذمّره مصرّحاً بعبارات استياء اعتيادية في ثقافته بينما يُعَدّ بعضاً منها جريمة أخلاقية وربما عقائدية عند العرب والشرقيين بصفة عامة. برّر الرجل انزعاجه بأن المواد التي طُلب تغييرها لا تحتوي على ما يُصطلح على وصفه بعيوب صناعية وإنما هي من جملة اختلافات طفيفة جاز لها أن تفلت من قبضة ضبط الجودة Quality Control السويسرية الصارمة. لم يقل الرجل ذلك مباشرة، ولكنه ما فُهم من سياق تأففه وهو يزمجر قائلاً: حتى في خط إنتاج الرب(God’s Production Line) يمكن أن نعثر على هذه الاختلافات الطفيفة، والأرجح أنه قالها مباشرة: الأخطاء، مما استتبع موجة عارمة من الاستياء من قبل المهندسين العرب تبعها سيل من المواعظ في العقيدة لم يبد الرجل مكترثاً له على كل حال، فكما بدا واضحاً حينها أن ذلك الخبير السويسري من جملة من لا يعيرون في الغرب الحديث (الحداثي) العقائدَ كبير اهتمام Non-believers ، حتى إذا لم يكن يتبنى الإلحاد كمبدأ “يؤمن” به وينافح عنه باستماتة.
تلك مقدمة تشير من طرف بالغ الخفاء إلى ما نريده في هذا السياق، فالخبير السويسري كان على حق غالباً في أن الاختلافات الطفيفة في المواد لم تكن أخطاء تستدعي التغيير. والمهندسون العرب كانت لديهم كذلك وجهة نظر منطقية بطبيعة الحال في أن ما يدفع به خط إنتاج الخالق (بتمرير التعبير) من تغييرات ليس من الحكمة النظر إليه بوصفه أخطاء من منطلق العجز وإنما تحوّرات مقصودة لأكثر من حكمة وغاية.
المهم في مقامنا هذا النظرُ إلى ما تدفع به خطوط الإنتاج البشرية من أخطاء (غير متعمّدة بطبيعة الحال). ستأخذ تلك الأخطاء مكانها في المصانع ذات الرقابة الصارمة على الجودة بحيث يُعاد تدويرها سريعاً في المصنع لتُقذف من جديد عبر خطوط الإنتاج نفسها خالصةً من العيوب المانعة للتداول وفق هذا المعيار وذاك من معايير الجودة بحسب مرجعية كل مصنع وصرامة أسواقه المستهدفة.
ولكن تاريخ البشرية مليء باختراعات رائعة، وأحياناً فتوحات علمية مفصلية، نتجت عن طريق خطأ في التصنيع من قبيل السهو وتجاوز الزمن اللازم خلال إحدى مراحل التصنيع، أو عبر إضافة غير مقصودة لمكوّن ليس في الوصفة المعتمدة للمنتج، أو بمجرد ملاحظة جانبية لعملية على هامش التصنيع، أو حتى من خلال حماقة مقصودة من صاحب العمل لمكايدة زبون مزعج كما ورد في موقع “سي إن إن بالعربية CNN Arabic” عن قصة اختراع رقائق البطاطس المقرمشة: “في العام 1853، حاول الطاهي جورج كروم إغاظة أحد زبائنه بسبب تذمره من سماكة شرائح البطاطا المقلية. وعمد كروم إلى تقطيع البطاطا إلى شرائح رقيقة للغاية، وأضاف عليها الكثير من الملح. ولكن الزبون، أعجب بطبق البطاطا الجديد، فكانت تلك بداية شهرة رقائق البطاطا المقرمشة”.
يتناول المقال المنشور بتاريخ 28 مايو 2014 في الموقع المذكور عشر اختراعات غيرت العالم عن طريق الصدفة، وفي مقدمة المقال يتم استخدام الكلمة الأكثر جرأة ومباشرة “الخطأ” عوضاً عن “الصدفة”، ففي تلك المقدمة أن “الكثير من الاكتشافات البسيطة وأخرى أكثر تعقيداً (أدّت) دوراً مهماً في حياة البشرية. ويقدر الخبراء أن بين 30 و50 في المائة من الاكتشافات العلمية تحصل عن طريق الخطأ”.
كل الاختراعات التي تناولها المقال على سبيل المثال مؤثرة بعمق ووضوح في حياة الناس، لكنها تتأرجح بين ما هو بالغ التعقيد والحيوية في تاريخ البشرية وبين ما هو بسيط مما يتخلل الحياة اليومية بسلاسة: أعواد الكبريت، مادة الأنيلين (الصبغة البنفسجية اللون)، البنسلين، فرن المايكروويف، مادة البلاستيك، رقائق البطاطس المقرمشة، الأشعة السينية، الزجاج الآمن، دواء الفياغرا، والبسكويت بقطع الشوكولاتة.
يمكن إضافة الكثير من الاكتشافات والاختراعات إلى تلك المذكورة على سبيل المثال، وستشمل القائمة – على سبيل المثال أيضاً – أشياء طريفة لكن بالغة الحضور في الحياة اليومية مثل الشاي مع الحليب والشوكولاتة الناعمة ومشروبات الكولا الغازية والغراء والمُحلّي الصناعي ورقائق الذرة، وغيرها كثير. ولكن العودة مع الاختراعات والاكتشافات إلى بدايات الوجود البشري تشي على الأرجح بأن إنجازات الإنسان وهو يرتقي العتبات الأولى على سلّم الحضارة البشرية يوشك أن يكون أغلبها ليس فقط عن طريق المحاولة والخطأ وإنما عن طريق الخطأ مباشرة، وذلك إشارة إلى نتيجة تفضي إليها مقدمةٌ كان الغرض منها مختلفاً تماماً.
ليس غريباً إذن أن نسحب الفكرة نفسها على الشهرة، فأسباب الشهرة – سواءٌ مع بعض المخترعين كما مرّ في الأمثلة السابقة أو مع النجوم والأعلام الذين يتوجهون ببضاعتهم أيّاً كانت مباشرة إلى الجماهير بداعي الذيوع – ليست دوماً معلومة مسبقاً ومخططاً لها بعناية، فالصدفة من العوامل المحورية في سيرة كثير من المشاهير، بل الأرجح أن سيرة كل مشهور لن تخلو من الصدفة في هذا المنعطف المهم وذاك.
بالنظر إلى الخطأ بوصفه حالة خاصة للصدفة، فإن خطأً في خط الإنتاج قد يدفع بمنتَج ما – معنوياً كان أم مادياً – إلى حيث يلقى رواجاً منقطع النظير يصنع لصاحبه المجد. ألا تستحق أخطاؤنا والحال كتلك قدراً أكبر من الامتنان؟ ليس فقط بوصفها أساس تجاربنا التي نفيد منها كما في أدبيات تنشئتنا الشهيرة، بل باعتبارها سبيلاً محتملاً إلى شهرة ومجد لا يعفيان من العمل الجادّ ويتطلبان قدراً من اليقظة والفطنة على كل حال.