ما جرى الأسبوع الماضي بين محررة صحفية وزميلها المصور “فاجعة مهنية” غير مسبوقة بهذا الشكل وبتلك التفاصيل من قبل، لم يحدث مطلقا أن قام صحفي بالإبلاغ عن زميله علنا وظلما ودون خوف من العواقب، لهذا كانت الصدمة كبيرة، لكن الاكتفاء بالدهشة ومصمصة الشفاه وضرب الكف على الكف لن يصل بنا إلى شيء سوى “فواجع” أخرى ستصبح بمرور الوقت أمرًا عاديًا كما اعتدنا نشر الأكاذيب والإشاعات والشتائم كل ساعة عبر وسائل الإعلام.
زوال الدهشة لن يتحقق إلا بمعرفة الأسباب و”تأطير” الموقف داخل حدوده الحقيقية وبعيداً عن السطحية والاختزال، كل موقف غريب وعجيب ومنفر يجب أن نعود به إلى أصله، “التأصيل” هذه ضرورة من أجل معرفة كيف وصلنا إلى هذا الحد من الفجاجة والتبجح والاستهانة بحياة الأخرين ومستقبلهم، أثبت هذا الموقف تحديدًا أن المجتمع المصري يعاني من انخفاض حاد في منسوب “الخجل”.
ما سبق يجعلنا ننفى كون الأزمة جاءت لأن محررة غلبت انتماءها السياسي على قواعد المهنية وأخلاقياتها، نعم هناك من يعملون في مجال “الميديا” ويكرهون ثورة يناير ومستعدون للإبلاغ – سرًا طبعا لا كما فعلت المحررة- عن أي متعاطف معها حتى لو كان قريب أو حبيب، والعكس متاح أيضًا من ينتمي للثورة ويرى أن كل من يعارضها يستحق العقاب والتشهير و”التحفيل”.
ذلك ليس السبب الرئيسي في ما جرى، ما حدث سببه “المنبع” فهو أصل كل داء في هذه المهنة وبالتأكيد في مهن أخرى لكننا من المفترض كصحفيين نمنح المجتمع كله النماذج التي يجب أن يقتدى بها .
“المنبع” الذي يدخل منه الصحفيون الجدد المهنة بات فاسدًا إلى حد كبير، هو كذلك منذ سنوات بعيدة، لكنه لم يكن بهذه الدرجة من الفساد ومخالفة المبادئ الإنسانية قبل المهنية، “يعني زمان كان ممكن يدخل صحفي بالواسطة”، صحفية بإمكانات جسدية لا مهنية، فتعمل قليلا وتمرح كثيرا، لكنها لا تؤثر على التيار العام في الجريدة أو المجلة، دائما ما تلهو هذه النماذج داخل شوارع المهنة لكنها لا تؤثر على حركة السير، ما جرى أن “المنبع” بات أكثر اتساعا لهؤلاء، غير المؤهلين لدخول المهنة، لا يعترفون أصلا أنهم يكتبون للناس، “لأ أنا داخل المهنة كصحفي عشان أتصور مع المشاهير وأتكسب من وراء الكتابة عنهم”، أما أنا الصحفية فضد الإخوان والثوريين فلن أكتب إلا ضدهم، حتى لو انهار المنزل فوق رأس عائلتي سأقول أن الإخوان هم السبب، لا مبالغات فيما قرأت قبل قليل، حيث غابت تماما فترة تأهيل الصحفيين من أجل التأكد أولا من صلاحيتهم لحمل “اللقب” وباتت المهنة ما بين منعدمي الأخلاق والضمير الذين شُرعت أمامهم الأبواب، وما بين السطحيين والتافهين من جهة الذين كان وجودهم نتيجة طبيعية لوجود الطرف الأول، اما في المنتصف فقد سقط كل صحفي يريد أن يكتب من أجل القارئ ويرفع من نسبة الوعي في مجتمع له كل الحق في أن يعلن الصحافة والثقافة إذا كان أبناء المهنة يسلمون زملائهم لرجال الشرطة.
هذا هو “أصل” الموضوع، القصة ليست “فردية” على الإطلاق، هي فقط “فجة وغير مسبوقة” لكن عشرات مثل المحررة إياها يمكن أن يبلغون عن أبرياء من خلال تقاريرهم، يرفعون هذا سابع سما وينزلون بأخر إلى أعمق أرض، يبثون مكالمات مسربة، يجرون اتصالات مع أشخاص ينتحلون صوت غيرهم، كل هذا موجود وأكثر منذ انهار خط الدفاع الأول عن المهنة وهو عدم قبول من لا يصلح منذ البداية، من هو مستعد لفعل أي شئ من أجل لا شئ، فأي مكاسب يحققها الصحفي دون احترام الجمهور وثقة زملائه هي لا شيء.
هذا عن “التأصيل” أما الحل فلن يكون إلا من خلال “الاستئصال” وهو أمر من الصعب انتظاره في المرحلة الحالية لأنه لا إرادة حقيقية لحدوثه، بقى أن نؤكد أن مصر لن تصبح أبدا “قد الدنيا” طالما لديها “أسوأ صحفيين في الدنيا”، لن نتقدم إلا بإعلام مهني، محترم، يخدم القارئ فقط لا غير.