“ذات مرة ألقى عالم مشهور، يقول البعض إنه برتراند راسل، محاضرة عامة عن علم الفلك. ووصف كيف أن الأرض تدور حول الشمس، وكيف تدور الشمس بدورها حول مركز لمجموعة هائلة من النجوم تسمّى مجرتنا. وفي نهاية المحاضرة، نهضت سيدة عجوز ضئيلة الحجم في آخر القاعة وقالت: إن ما تقوله لنا هراء. فالعالم في الحقيقة صفحة مسطحة مستقرة على ظهر سلحفاة هائلة. وابتسم العالِم في تعالٍ قبل أن يجيب: وما الذي تقف عليه السلحفاة؟ فقالت السيدة العجوز: إنك لبارع جداً أيها الشاب، بارع جداً. على أن الأمر كله سلاحف بطول الطريق إلى أسفل!”.
الاقتطاف أعلاه هو بداية الفصل الأول من كتاب ستيفن هوكينج Stephen Hawking الذي يتناول فكرة علمية فلسفية بالغة التعقيد حاول هوكينج تبسيطها لغير المتخصصين تحت عنوان “تاريخ موجز للزمان: من الانفجار الكبير حتى الثقوب السوداء” A Brief History of Time: From the Big Bang to Black Holes، الترجمة العربية صادرة عام 2016 عن دار التنوير ببيروت والقاهرة وتونس. يقول كارل ساجان عالم الفلك والكونيات الأمريكي في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب: “وهوكينج الآن أستاذ كرسي لوكاس للرياضيات في جامعة كمبردج، وهو منصب كان يشغله نيوتن ذات مرة، وشغله فيما بعد ب. أ. م. ديراك، وهما رائدان مشهوران لما هو كبير جداً وما هو صغير جداً. وهوكينج هو خليفتهما الجدير بذلك”.
في الاقتطافين السابقين – عن ستيفن هوكينج وكارل ساجان – وردت الإشارة إلى الشهرة في موضعين: “ذات مرة ألقى عالم مشهور يقول البعض إنه برتراند راسل” و”هما (نيوتن وديراك) رائدان مشهوران لما هو كبير جداً وما هو صغير جداً”.
النفاذ إلى ما وراء أسماء أولئك العلماء نبشاً في بعض تفاصيل إنجازاتهم العلمية المجردة – مما حقق لهم شهرة امتدت خارج المحافل العلمية – يتطلب مجهوداً عقلياً معقداً لا تُعَدّ الإحاطةُ به في وسع أغلب المتلقين غير المتخصصين ممن بهرتهم تلك الأسماء بدرجات متفاوتة، لا سيما اسحق نيوتن وبرتراند راسل وستيفن هوكينج. لكن ما يعنينا تحديداً في هذا المقام أمران: الأول أن قطاعات عريضة من الجماهير غير المتخصصة تبهرها شهرة العلماء المشغولين بمجالات بالغة التعقيد في الرياضيات والفيزياء والفلك والفلسفة وما على تلك الشاكلة من العلوم البعيدة من حيث تفاصيلها المعقدة عن متناول العامة. الأمر الثاني – وهو الأهم في سياقنا هذا – أن أولئك العلماء أنفسهم لا يبدون أقلّ اهتماماً بالشهرة والسعي إليها بطريقة أو بأخرى، وتلك ليست تهمة أو مسألة تنقص بالضرورة من قيمة العلماء العلمية، أو حتى الشخصية، بقدر ما هو سلوك بشري طبيعي تطلّعاً إلى الإقرار بالمكانة والتقدير من قبل الآخرين.
قد يبدو الأمر متكلَّفاً إذا حذّرنا من أن سَعْي العالم إلى الشهرة يغدو مذموماً عندما يكون على حساب انصرافه إلى تجويد إنجازه العلمي، فتلك أقرب إلى الحقيقة المسلّم بها من وجهة نظر مثالية أو متعقّلة، ولكن ذلك يحدث في كثير من الأحيان ويصادف نجاحاً ملحوظاً، فكثيراً ما ينجح عالم أقلّ قيمة في الإنجاز العلمي في لفت أنظار الجماهير من غير المتخصصين إليه على حساب كثير من زملائه الأعمق إنجازاً ولكن أقلّ انشغالاً أو أدنى مهارة في تحرّي الطرق المفضية إلى أبواب النجومية، حتى إذا كانت تلك النجومية على صُعد العلوم النظرية البحتة.
في سياق قديم ولكن متصل، أشرت في “تواضعوا معشر الكتّاب” تحت عنوان “حذار من النجوم” إلى أنه “ثمة فرق بين الكاتب المجيد والكاتب النجم من حيث أن الوصفين لا يترافقان بالضرورة في الكاتب نفسه، وعليه لا يجب الاستغراب لرؤية كاتب عبقري يمشي في الأسواق ويأكل من أوسط طعام الناس أو حتى أدناه. ينطبق ذلك على الفن أيضاً، فالفنان الموهوب المتميز ليس نجماً بالضرورة، وإن يكن بريق وسائط الفن يلقي على من ينتسبون إليه بصفة عامة من الهالة ما يفوت أرباب الكتابة إجمالاً. هذا وتضيق الهوّة في الرياضة بين اللاعب الموهوب المتميز واللاعب النجم ربما لخلوّ الرياضة من لعبة المشاعر والأفكار في تفاصيلها الفنية بما يُشْكل على الناس في الحكم، ولكن في كرة القدم تحديداً يصبح اللاعب نجماً عندما يكون هدّافاً يحسم نتائج المباريات لصالح فريقه وليس مجرّد لاعب يمتلك من المهارات ما يمتع الجمهور دون أن يضمن لفريقه ألّا يخرج خاسراً عقب المباراة”.
تلك تفاصيل، أو ربما انطباعات، دقيقة لسلوك المتنافسين في سباق النجوم باختلاف ما يتوجهون به إلى الجماهير من أعمال وإنجازات. غير أن سلوك البشر إزاء النجومية يبدو واحداً بصرف البصر عن طبيعة مجالاتهم ونزعاتهم النفسية واختلاف مقاماتهم في أعين الآخرين، وقد أشرت في المقام نفسه من “تواضعوا معشر الكتاب” إلى أنه “عندما يتعلّق الأمر بسلوك النجم فلا فرق بين مفكِّر عميق وممثلة شابّة أو لاعب كرة قدم صاعد… السلوك إزاء النجومية في الأصل أقرب إلى أن يكون سلوكاً فطرياً إنْ مع كاتب عبقري أو ممثلة حسناء”.
باقتطاف المزيد عن المصدر نفسه نقرأ: “الكاتب مقدّم البرامج نسخة معدّلة أكثر شراسة على صعيد النجومية من رصيفه الذي يعتمد في ألقه على الورق والحبر مجرّدين، فمقدم البرامج النجم يذوق قدراً معتبراً من نجومية أهل الفن المكتسحة لسائر البشر وليس صفوة الناس التي لا تزال صامدة على مبدئها في تبجيل الكلمة التي اكتفت بأن تظل حبيسة الأوراق”. كارل ساجان – الذي قدّم الطبعة الأولى لكتاب هوكينج المشار إليه أول هذا المقال – عالم فيزياء فلكية مرموق ذاق حلاوة النجومية عبر أكثر من إطلالة تلفزيونية. ساجان بدا أكثر وقاراً من أن يدع بريق التلفزيون والإعلام يفقده رصانته العلمية، لكن ذلك لا يعني أن عالم الكونيات المرموق لم يذق حلاوة النجومية الإعلامية ويتلذذ بها كما لم يتسنّ لزملائه الذين لا يقلّون عنه مكانة علمية ولكن لم يسعفهم القدَر بإطلالات إعلامية مماثلة، سواءٌ لأنهم لم يفلحوا في معرفة الطرق المفضية إلى تلك الإطلالات أو لأنهم لم يكونوا معنيين ابتداءً بالانشغال بمعرفتها انصرافاً إلى بحوثهم العلمية الصرفة.
بعيداً عن النجومية، لا تخلو ساحات العلم من حروب شرسة بين العلماء من أجل السبق إلى تسجيل براءة اختراع أو إنجاز علمي من أي قبيل، أو حتى في سبيل الحصول على لقب أو كرسي مرموق، وذلك بصرف البصر عن الجدارة التي تبدو في كثير من الأحيان كما لو كانت مسألة تقديرية أكثر من كونها قطعية، حتى على صعيد العلوم النظرية البحتة.
ومع النجومية تحديداً، لا يبدو العلماء شامخين بمنأى عن مشاكسات وحروب مستعرة أسوة بزملائهم النجوم على كل صعيد، ففي السياق نفسه من “تواضعوا معشر الكتاب” رأينا أنه “مثلما أن سلوك النجوم إزاء الجماهير يتشابه مهما تتعدد المجالات فإن حرب النجوم تكاد تكون واحدة من حيث ملامحها وتجلياتها لدى أهل المجال الواحد مبدعين ومتابعين”، وليس ذلك سوى لسبب بسيط وإن يبد غالباً عصيّاً على التصديق، فـ”سلوك بني آدم (دون استثناء) يبدو متقارباً (وربما متطابقاً) عندما يتسنى لبريقهم أن يصعد إلى السماء”.
للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي| ([email protected])