أحمد أسامة
قليلون من يتصفون بروح المغامرة واتخاذ القرارات الجريئة والمصيرية، قرارات تتعلق بطريقة تعاملهم مع صعاب الحياة، قرارات تتعلق بطريقة عيشهم للحياة، يحاولون شق طريقهم بأنفسهم، لا يأبهون بمن يعارضهم أو من يحاول الوقوف عثرة في تحقيق غايتهم. البعض قد يصفهم بالمتمردين، أو أنهم لا يدركون نتائج وعواقب قراراتهم، إلا أن من يتصفون بتلك الصفات، لا يزيدهم ذلك إلا إصرارا وعزيمة وتمسكا بموقفهم، فالتمرد هو فلسفتهم في الحياة.
نبيل نعوم، كاتب من طراز فريد، متمرد منذ صباه، عرف طعم التمرد في حياته مرتين، مرة حين عارض أفراد أسرته ورفض الالتحاق بكلية الطب مثلهم، مصمما على الالتحاق بكلية الهندسة، رغبة في صنع نسخة أصيلة من نفسه، بعيدا على أن يكون شبيها أو مماثلا لأحد أفراد أسرته. نجح في ذلك وتخرج من كلية الهندسة تخصص الهندسة المعمارية من جامعة القاهرة عام 1967م، وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل مهندسا في تخصصه بكفاءة شهد لها سوق العمل الأمريكي لمدة تقارب العشر سنوات. أما التمرد الثاني فكان قراره بالتوقف عن ممارسة مهنة الهندسة والتفرغ للكتابة الإبداعية منذ عام 1979م حتى الآن، والعودة إلى القاهرة مرة أخرى للاستقرار فيها، وافتتح معرضا للفن الحديث، وبدأ في نشر مقالات تتناول الفن المصري والعربي الحديث، كما قرر التركيز بصفة أكبر على الكتابة الأدبية، متجها لكتابة القصص القصيرة والروايات، ونجح منذ ذلك الوقت في نشر عشرات القصص القصيرة، وسبع روايات طويلة، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات المختلفة مثل الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها.
تتلخص فلسفة نبيل نعوم عن الكتابة أنها وسيلة للحياة، وسيلة لفهم تدابير الحياة والاستمتاع بها في نفس الوقت، يرى أن الحياة مليئة بالتفاصيل الغرائبية، مليئة بالحيرة والمتعة في نفس الوقت. يرى في قرارة نفسه أن الكتابة هي سلاح الكاتب لإثبات وجوده، محاولا باستمرار إثارة التساؤلات والبحث عن إجابات لها، وذلك لن يتأتى للكاتب إلا عندما يصل إلى اقتناع أنه يستطيع الكتابة بأسلوبه المتفرد، بعد الكثير والكثير من المحاولات الشاقة والمضنية، يرى نبيل أن تلك المحاولات هي أشبه بألعاب ذهنية ممتعة، يتوصل فيها الكاتب إلى إيجاد صلة خاصة مع نفسه، محاولا معرفة المزيد عنها، مستعينا في ذلك باللغة، التي تمكنه من إيجاد الكلمات والجمل المناسبة، ليس بالضرورة أن تكون النتيجة عملا مكتوبا يتربع على عرش قوائم الأكثر مبيعا، بل يكفيه أنه أثبت وجوده ومروره في هذه الحياة.
تعد رواية “الباب” الصادرة عام 1977م، أولى إبداعات نبيل نعوم، والتي نشرها على حسابه الخاص فور عودته للاستقرار في مصر، وتميزت بأسلوب خاص، وغرائبي، ذو مسحة صوفية، يصف فيه رحلة الروح بين عصور مصر المختلفة من الأقدم للأحدث، يسلط فيها الضوء على التاريخ المصري، بمختلف مراحله وفتراته، وكان “الباب” هو منفذ الروح للعالم والمتمثل في مصر.
يستمر نبيل نعوم في لعبته المفضلة والخوض في غمار التاريخ، والمزج بين الماضي والحاضر، فيتناول في روايته “العودة إلى المعبد” والصادرة عن دار الآداب عام 1994م، قصة حب رومانسية تجمع بين عالم آثار مصري وفتاة فرنسية مغرمة بالحضارة الفرعونية، وبين مشاهد متناثرة بين الحاضر والماضي، ينثر الكاتب أسئلته وهواجسه عن إشكاليات العيش في العصر الحديث حينها، والتشابه مع الماضي رغم مرور آلاف السنين.
في رواية “حافة الود” الصادرة عن هيئة قصور الثقافة عام 2000م، يستغل نبيل نعوم الانفتاح الذي شهده العالم، والتطبيق الفعلي لمقولة أن “العالم أصبح قرية صغيرة” نظرا لانتشار وسائل الاتصال المختلفة، ويلقي الضوء العلاقات الإنسانية المختلفة، من حب وزواج وطلاق وصداقة وخلافه، مما يجعلها بمثابة إطلالة أدبية على العلاقات الإنسانية في القرن الجديد حينها، والتركيز على هوية البطل وحالة الاغتراب التي يعيش فيها، لا فرق بين اغتراب نفسي أو مكاني، يستلهم ذلك من تجربته الذاتية في الاغتراب والعيش في الخارج، ومناقشة هاجس الموت في الغربة، والحنين للديار. أيضا تناقضات وتصرفات البشر على اختلاف أنواعهم ودوافعهم، كل ذلك في إطار من السرد الهادئ الذي يجذب القارئ بخفة ويسر.
أما في رواية “الملكة توت” الصادرة عن دار ميريت عام 2010م، يناقش فيها الكاتب التاريخ من زاوية الفرضيات، ويبني عليها عالما كاملا من الشخصيات والعلاقات والمواقف والمشاهد المختلفة. في هذا العمل يناقش الكاتب فرضية أن الملك الفرعوني “توت عنخ آمون” ليس رجلا، بل امرأة تلبست بتصرفات وملابس الرجال تدعى “نفرت” تحكي لخادمتها “سنو” ما الذي حدث، وكيف تم الاتفاق مع الملكة الأم “تي” على جميع التفاصيل، كذلك تسليط الضوء على شخصيات هامة ومحورية في التاريخ الفرعوني مثل “اخناتون” و”حورمحب” ومختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية في مصر القديمة في تلك الفترة الحرجة من ذلك العصر.
في روايته الأخيرة “نصف صدر” الصادرة عن دار الكتب خان عام 2014م، يناقش الكاتب حالة الاغتراب التي يعيشها من يحب من طرف واحد، في أجواء زمن الستينات والسبعينات، وأزمة ماذا بعد أن يتم تحقيق المراد؟ هل اكتملت القطعة الناقصة في أرواحنا بمجرد حصولنا عليها؟ أم مازال هناك مكانا شاغرا في الروح ومازال السعي والبحث مستمرا؟ وهل هذه هي سنة الحياة أن تكون في سعي وبحث مستمر عن ما تعتقد أنه السعادة في حد ذاتها، أم أن تلك العملية متكررة حتى ما لا نهاية؟ استفسارات وتساؤلات تميز الكاتب في عرضها، كمحاولة منه للبحث عن أجوبة قد تجعله يشعر ببعض الراحة والاطمئنان، ورغبته في أن يشاركه القارئ رحلته، فكل قارئ له إجاباته الشخصية التي تتسق مع تفاصيل حياته.
نبيل نعوم كاتب وفنان، يكتب بفن ولا يخشى التجريب والتجديد، مهما طالته الانتقادات أو بعض الآراء المعترضة على طريقته في تناول الأدب، يكتب عن نفسه، ويرى أن التكرار لا يعيبه، بل هي محاولات مستمرة منه للوصول إلى صيغة هادئة وحالمة للتصالح والتفاهم مع نفسه، وهذا دأب معظم الفنانين في العموم، لذلك ليس مستغربا أن تكون ابنته هي السيناريست المتألقة “مريم نعوم” التي أمتعتنا ومازالت تمتعنا بحواراتها ومشاهدها وأعمالها درامية والفنية المميزة.