عمرو منير دهب
لم يخلّف الفيلسوف اليوناني العظيم أي عمل مكتوب، لكنه على الأرجح بقي في ذاكرة كل من يعرف نتفة عن الفلسفة أو سمع شيئاً عنها أفضل مما بقي غيره، حتى أولئك الذين ملأت مؤلفاتهم الفلسفية مكتبات العالم على مدى التاريخ.
نقلاً عن ويكيبيديا الإنجليزية فإن سقراط “فيلسوف من أثينا يُنسب إليه الفضل كمؤسس للفلسفة الغربية وأول فيلسوف أخلاقي للتقاليد الأخلاقية للفكر. شخصية ملغزة/غامضة enigmatic figure. لم يؤلف سقراط أية نصوص، وهو معروف بشكل أساسي من خلال ما روى بعد وفاتهposthumous accounts من قِبل الكتاب الكلاسيكيين، وتحديداً تلميذيه أفلاطون وزينوفون”.
بذلك كان من المفترض أن ينسحب سقراط إلى ركن قصيٍّ من ذاكرة تاريخ الفلسفة، لكنه على العكس بقي عَلَماً على سدّتها على مرّ العصور، وذلك واحد من أسرار الشهرة العصية على فك طلاسمها إلا ما كان من باب قراءة ما حدث بالفعل وليس التنبّؤ بما عساه أن يحدث مستقبلاً، سواءٌ مع “الحادثة” نفسها – لو قُدّر لنا جدلاً أن نرجع إلى الوراء للتنبّؤ بمستقبلها – أو حتى مع “حادثة” شهرة مماثلة أو مشابهة من قريب أو بعيد.
إمعاناً في الوقوف على حظوة الفيلسوف العظيم الفريدة في سماوات النجومية، نواصل نقلاً عن ويكيبيديا الإنجليزية: “تمّت كتابة هذه الروايات accounts على هيئة حوارات dialogues، حيث يفحص سقراط ومحاوروه موضوعاً بأسلوب السؤال والجواب؛ لقد أدى ذلك إلى ظهور الحوار السقراطي Socratic dialogue كنوع أدبي. تجعل الروايات المتناقضة لسقراط إعادة بناء تاريخ حياته شبه مستحيلة، وهي حالة تُعرف باسم مشكلة سقراط Socratic problem. كان سقراط شخصية مستقطبة polarizing figure في المجتمع الأثيني. في عام 399 قبل الميلاد اتُهم بإفساد الشباب وعدم الاعتراف بآلهة المدينة الرسمية. بعد محاكمة استمرت يوماً، حُكم عليه بالإعدام. أمضى يومه الأخير في السجن رافضاً الهروب”.
الروايات المتناقضة لسقراط جعلت إعادة بناء تاريخ حياته شبه مستحيلة كما يرد في الاقتطاف السابق، ما يفيد بأن أية شخصية تطمح إلى الشهرة ليست بحاجة إلى تاريخ حياة متماسك، بل على العكس ربما كانت السيرة الحافلة بالاختلاف والجدال حول تفاصيلها أكثر حفزاً لنجوم الشهرة بدعوة الشخصية المثيرة للخلاف والجدل إلى سماواتها، الأمر الذي يبلغ ذروة فريدة مع سقراط تحديداً، فالفيلسوف اليوناني ليس شخصية أسطورية أو مختلَقة وإنما هو رجل عاش بالفعل وأثّر في الناس دون أن يكتب حرفاً واحداً على الرغم من أن مجال تأثيره كان فكرياً محضاً.
من موجبات التميّز أن يخالف أحدُهم الآخرين فيبتدع أسلوباً جديداً يفضي بدوره إلى افتراع نوع أدبي جديد. وأكثر بعثاً على التفرّد أن تُكال إلى أحدهم تُهم من طراز الخيانة العظمى فيصمد أمامها ويأبى أن يتراجع إلى حدّ تجرّعه سمّاً فاتكاً وهو في تمام الثبات والرضا كما تكاد تجمع الروايات حول نهاية حياة “أكثر الرجال حكمة في العالم القديم”. لكن كل ذلك ليس كفيلاً على أية حال بأن يجعل بطل القصة مشهوراً، وإنما هو فقط مما يتم تداوله بين الناس – عقب تحليق النجم في سماوات الشهرة – على أنه سبب “منطقي” للشهرة. ولا شيء أودّ إثباته في هذا المقام أعمق من أنه لا منطق للشهرة يمكن تعقّبه باطّراد على الإطلاق، وأرجو أن تجوز هذه الجرأة في التعميم.
الشهرة تتكشّف معالمها بعدما تتحقق لكل حالة على حدة، والأدق أنها لا تفصح عن سرّ وإنما فقط تتبدّى تفاصيلها بما يغري الناس بقراءة ما يطالعون على أنه سر يضمن الشهرة إذا تمّ تحقيقه في حالات مماثلة مستقبلاً، وتلك – بمزيد من الدقة – مخاتلات الشهرة أكثر من كونها أسراراً جديرة بالتحرّي والاتّباع من قبل الطامحين إلى بريق النجومية على أي صعيد.
سقراط كان محظوظاً في شهرته، وهو حظ مستحق، وأرجو أن يجوز التعبير. وربما الأدق القول بأنه حظ صادف من يستحق رجوعاً إلى معايير “فنية” صرفة في التقييم من حيث المحتوى الذي أسهم عبره الرجل في ميدانه الفكري. ولمزيد من الدقة، فإن حظ سقراط الأعظم تجسّد في تلامذة أوفياء ونابهين من طراز أفلاطون شخصياً.
من الصعب تحديد مدى شهرة سقراط إبّان حياته، وأشدّ صعوبة تحديد مكانة الفلاسفة حينها قياساً إلى سائر المبدعين. تشير الروايات إلى أن سقراط تقلّب لدى السلطة في أثينا القديمة بين الحظوة النادرة وبين السخط الشديد، وكلاهما باعث على الشهرة على كل حال. وقد رأينا أن “دراما” محاكمته وإعدامه من طراز بالغ الرفعة في تأكيد الفرادة الداعية بدورها إلى تأكيد الشهرة شريطة أن تجد من يخلّدها لاحقاً، وقد تحقق ذلك الشرط في أفضل صوره كما أشرنا عبر تلامذة في مقام أفلاطون. لكن من الصعب تحديد مزاج أثينا الجمعي/العام في ذلك الزمان تجاه متابعة الجماهير من نجوم الشخصيات العامة.
سقراط كان محظيّاً بين تلاميذه من عشاق الفلسفة، ولكن ربما سبقه إلى الحظوة الجماهيرية في ذلك الزمان من الشعراء والرسامين والنحاتين وممثلي التراجيديا مَن لم نقف على شهرتهم التي ربما طمسها الزمان، ذلك فضلاً عن أبطال الرياضات التي كانت شائعة حينها مما لم يسعفهم حظ الشهرة بأن تترامى أخبار بطولاتهم إلى مسامعنا، ربما باستثناء فيديبيدسPheidippides/Philippides ، الرجل الذي اقتحم تاريخ الرياضة – من باب العسكرية/الوطنية – بإلهامه العميق المتعلق بسباق الماراثون.