أحمد أسامة
في حوار للمترجم عبدالسلام الشنتوف مع جريدة العربي الجديد حول ترجمته لكتاب “كتابة الفاجعة” تأليف الفرنسي “موريس بلانشو” يقول: إن مفهوم الكتابة عند بلانشو لا يتَأتى إلا منْ خلال الكتابة ذاتِها، وحينَمَا يُركّزُ على تجربةِ الكتابة لا يَنْظُر إلى أنّ الكتابَةَ هي تَقَوْقُعُ الأدب على ذاته، بل هي انفتاحٌ على التجربة الإنسانية كلّها، ولذلك فالأدبُ، بالنسبة إليه، هو التجربةُ نفسُها.
كذلك الوضع مع الكاتبة المصرية أمينة زيدان التي ترى أن الكتابة الروائية هي المشهد الذي نرى منه موقعنا من العالم ومن أنفسنا. والكتابة مسئولية تتحمل ذنب انكسارات الشعوب، ومن يقرأ التاريخ سوف يعرف بأن الكلمة تصنع الثورات.
أمينة زيدان، روائية وقاصة مصرية من مواليد مدينة السويس الباسلة، تعمل كمحاسبة في وزارة المالية، ولها باع طويل في مجال العمل الإبداعي، فصدر لها العديد من القصص القصيرة والروايات الطويلة، كما حصدت بعض أعمالها على جوائز أدبية رفيعة المستوى، فحصلت على جائزة أخبار الأدب لأفضل قصة قصيرة (1994) عن قصة “حدث سرًا”، جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب لأفضل مجموعة قصصية (1995) عن المجموعة القصصية “حدث سرًا”، جائزة مسابقة دول حوض البحر المتوسط لأحسن عمل قصصي من مصر تُرجم إلى الإيطالية (1997)، جائزة نجيب محفوظ للأدب (2007)، عن رواية نبيذ أحمر.
صرحت عضو لجنة تحكيم جائزة نجيب محفوظ للأدب الروائي الدكتورة سامية محرز في كلمة ألقتها خلال حفلة تسليم الجائزة إلى نجاح رواية ” نبيذ أحمر” “نجحت أمينة زيدان في زحزحة هيمنة مدينة القاهرة على الخريطة الأدبية عندما اختارت مدينة السويس، مدينتها المهمشة، مشهدا حيا لكتابة الفجيعة. السويس تلك المدينة الصغيرة نسبيا التي تحملت وطأة الهزيمة، والخراب، والدمار، والموت، والاقتلاع، وأخيرا النسيان.
وأضافت الدكتورة سامية محرز: “لقد مر حوالي نصف قرن على ظهور رائعة نجيب محفوظ ” الثلاثية ” ذلك العمل المحلي الذي أرخ من خلاله للحظات فارقة في تاريخ مدينة القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، وتخوض أمينة زيدان تجربة موازية في تمثيلها لمدينة السويس، مسقط رأسها لتقف بروايتها ” نبيذ أحمر ” في رحاب مؤرخ القاهرة الأدبي الأعظم من خلال تشييدها لمدينة السويس ونقشها في مخيلتنا الجمعية.
وأوضحت أن نص أمينة زيدان يحفر مدينة السويس في المخيلة الجمعية باعتبارها مسرح الفجيعة بامتياز. إن الكاتبة في واقع الأمر ترسم خريطة مدينتها المنكوبة من خلال بيوتها المهدمة وأشلاء أجساد أبنائها ومحرريها.
يتميز قلم أمينة زيدان بلغة شاعرية، تعتمد على الرمزية والتأويل في بعض الأحيان، إلا أنها تتعمد أن تكون لغة الكتابة يسيرة ومبسطة، مع استعانتها ببعض المفردات المميزة والتي تناسب الجو العام للعمل الأدبي. أيضا تستمد من تجربتها الذاتية في معاصرتها للتهجير الذي تعرضت له مدينتها الأم، قوة ودافعا مستمرا للكتابة والإبداع الذي يتضح بشدة في كل كتاباتها، مما يجعلنا نقول أن قلمها يكتب بحبر الفجيعة.
ترى أمينة زيدان أن الكتابة خلقت لتبني لا لتهدم، وهذا ما لا يدركه المتعصبون الذين ينسون أن في الدين نظاما لحياة الشعوب لا ينبغي التطرف فيه أو استخدامه كذريعة للإرهاب المتبادل بين الأطراف ذات المصالح المتعارضة ليسقط بينهم الأبرياء ومن يستخدمون حصتهم من إعمال للعقل أو الخيال.
عندما رحل شقيقها الأكبر، كان في العشرينيات ولم يترك إلا أوراقاً قليلة ضمّت قصائد شعرية، وخواطر نثرية. كانت الطفلة التي لم تتجاوز الـ12 من العمر، تعود إلى هذه الأوراق وتسأل نفسها: «ماذا ستفعل بها؟». وجدت نفسها تذهب مباشرةً إلى هذه الأوراق كلّما شعرت بالحنين إلى شقيقها. هكذا أدركت أنّ الكتابة من شأنّها أن تتغلّب على الغياب، فبدأت تحلم بأن تصبح كاتبة.
في مجموعتها القصصية “حدث سرا” الصادرة عام 1995م ضمن سلسلة الكتاب الأول من المجلس الأعلى للثقافة، فضلت الكاتبة أن يغلب على القصص طابع الحزن والاهتمام بالمصير والموت، وهموم أخرى متشابكة مع نكسة 1967م، ظهر ذلك جليا من عناوين القصص مثل، الموت بحراً، آخر شتاء حزين، جبال الحزن، حدث سراً، الذي لم يأت بعد.
أما في روايتها “هكذا يعبثون” الصادرة عام 2003م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، حاولت الكاتبة أن تسرد حكاية وطن، وهموم أفراده في مرحلة ما بعد نكسة 1967م، والتركيز على التحول الملحوظ الذي حل بالمجتمع حينها، متخذة من مدينة السويس مسرحا للأحداث، ومحاولة الأفراد الانغماس في مسلكيات لم يعتدها، حتى ولو كانت متعارضة مع قيمه وعاداته، ومواجهة نتائجها الفوضوية، رغبة في الهروب من الإحباط المستمر الناجم عن الهزيمة. أيضا اعتمدت الكاتبة على صور جمالية ومجازية مناسبة للبيئة التي تحتضن شخصيات العمل، واستخدمت مستويات مختلفة من اللغة، رغبة في التعمق بصورة أكبر داخل نفوس شخصياتها، مما أكسب العمل زخما وثقلا قد يراه البعض سلبيا في بعض الأحيان، نظرا للتشتت الذي قصدته الكاتبة.
في روايتها “نبيذ أحمر” الصادرة عن دار الهلال عام 2007م، والحائزة على جائزة نجيب محفوظ الممنوحة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، اختارت الكاتبة فترة تهجير سكّان مدينة السويس بين نكسة 67 وحرب أكتوبر 1973م، بداية زمنية لأحداث الرواية، واستعانت بمخزون ذاكرتها عن تلك الفترة التي عاصرتها بنفسها أثناء طفولتها، وعلى مدار أربعة عقود، هي الخط الزمني للرواية، رصدت علاقات المثقفين بالتنظيمات السرية، حين انتقلت بطلة الرواية إلى القاهرة بعد انتهاء الحرب، والكشف عن أن الهزائم ليست بالضرورة أن تكون عسكرية، بل تعتبر الهزائم النفسية والداخلية أثقل وطأة وأشد إيلاما.
أيضا لم تغفل الكاتبة عن رصد قضايا المرأة وهمومها والتحديات التي تواجهها في ذلك الوقت، فجاءت الرواية كأنها عالما محكما تدور بداخله الفوضى بشكل درامي.
أما في روايتها “شهوة الصمت” الصادرة عن دار نهضة مصر عام 2003م، فاعتمدت على أسلوب سردي أشبه بطريقة الحكي، على لسان بطلة الرواية، البكماء، هذه الشخصية الصامتة الممتلئة بحب الحياة لا نراها سوى من خلال شخصيات الرواية، التي تعكس صورا متعددة لأشخاص لم ينجوا من سلسلة الهزائم المتتالية منذ سنوات النكبة التي غيرت الكثير، ربما يكون قصدها صنع إسقاط غير مباشر، على حالة الوطن الصامت، والذي يكون شاهدا على حالة أفراده، ومناقشة إشكالية الموت، وهل هو حلقة مستمرة في سلسلة الهزائم المستمرة، أم أنها الانتصار الوحيد عليها.
أمينة زيدان، كاتبة من طراز فريد، تمتلك مشروعا روائيا مميزا، يشهد لها الوسط الثقافي بالجودة الأدبية، والجرأة في عرض القضايا الشائكة، فحصولها على جائزة أخبار الأدب، وتسلمها الجائزة من الأديب نجيب محفوظ، ثم بعد 14 عاما تفوز بجائزة نجيب محفوظ للرواية، ليس محض مصادفة على الإطلاق، كما تؤمن أن للكتابة دورا هاما ومحوريا في تغيير التاريخ ومصائر الشعوب، حتى ولو لم يحالف الحظ جميع الكتاب في ذلك، إلا أن عليهم عدم التوقف عن محاولة تحقيق ذلك.