دوما عند مشاهدة أي عمل فني تبرز إشكالية: هل من المفترض أن يعبر الفن عن المجتمع بشكله الحالي فقط؟ أم طرح نموذج إيجابي لما يجب أن يكون عليه المجتمع، بمعنى آخر تقديم تصور مستقبلي لمشكلات المجتمع مع الحلول؟! وظهرت هذه الإشكالية بشكل قوي بعد طرح مسلسل “البحث عن علا”؛ فالبعض أبدى إعجابه بالمسلسل في إطار أنه عمل فني مسلي، أما الهجوم عليه فكان أشد باعتبار أنه يقدم شكل وردي لحال المرأة المصرية بعد الطلاق، ولا يعبر عن معاناتها التي تجعله مسلسلا “خياليا” بحسب تعبيرات البعض.
يعتبر مسلسل «البحث عن علا» هو الجزء الثاني من مسلسل «عايزة اتجوز» الذي ظهر منذ 12 عاما، عن كتاب بنفس الاسم للكاتبة غادة عبد العال، لكن بشكل مختلف، ففي الجزء الأول كانت بطلة المسلسل تبحث عن عريس طوال الوقت حتى تتخلص من لقب «عانس» الذي يطاردها به المجتمع، و الجزء الثاني هو استكمال لتيمة الجزء الأول للمسلسل ولكن بشكل مختلف تماما، حيث يقدم شخصية البطلة «علا» بعد 13 عام من الزواج، وقد تعرضت للهجر والطلاق من زوجها بحجة أنه «زهق» ويريد أن يستمتع بحياته، فيبدأ المشاهد برؤية رحلة «علا» مع الطلاق وكيف تعيد اكتشاف ذاتها من جديد، وهو ما يتماشى مع طبيعة عنوان المسلسل الذي يتكون من 6 حلقات.
الهجوم الذي طارد المسلسل كان مركزا على أن طلاق المرأة المصرية ليس بهذا الشكل الجذاب المتحضر الذي يصر فيه المطلق على دفع نفقات زوجته، فالمحاكم تشهد كثيرا من قضايا الطلاق والتي زادت نسبتها حتى وصلت إلى حالة طلاق كل دقيقتين بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2020، وكذلك دعاوى النفقة على الأبناء، حيث يمتنع نسبة كبيرة من الأزواج عن دفع النفقات سواء للزوجة أو الأبناء، بل أن واقع المرأة المطلقة ليس كله ممهد مليء بالورود ، من حيث إمكانية توفر المال لبدء مشروع جديد ناجح فور وقوع الطلاق، وأن تنطلق في اكتشاف ذاتها دون أن تقع تحت مطرقة نظرة المجتمع التي قد توصمها.
وأمام أحقية البعض في رؤية المسلسل لا يعبر عنهم، إلا أنه يمكننا رؤية أن المسلسل قد خدم قضية الطلاق في مصر بشكل آخر، وهو تقديم نموذج إيجابي للطلاق والشكل الذي يجب أن ينغرس في وجدان المشاهد الصغير قبل الكبير، فمن ضمن القيم التي قدمها المسلسل على سبيل المثال ضرورة وجود علاقة إيجابية بين الآباء وأبنائهم مع آبائهم بعد الطلاق حتى لا تتشوه نفسيتهم، وتمثل ذلك في مشهد رائع ترفض فيه «علا» أن تتبنى ابنتها مشاعر الكراهية التي باتت تكنها تجاه طليقها، وتؤكد لها أن شكل علاقتها به هي أب وابنة وليس زوج وزوجة في إشارة إلى استخدام بعض المطلقين لمشاعر أبنائهم كوسيلة للضغط على شركائهم.
وعلى هذا المنوال هناك قيم مختلفة يقدمها المسلسل مثل كسر الصورة النمطية بأن السيدة بعد الطلاق لا يجب أن تفكر في الزواج مرة أخرى، ضرورة وجود حوار إيجابي بين المطلقين لمناقشة مستقبل ابنائهم، أما الأهم هو فتح حالة من الحوار حول شكل منظومة الزواج نفسها في مصر؛ والتي تجعل المرأة تدور في فلك الأبناء والواجبات المنزلية بينما الزوج يختص بالإنفاق، وهو شكل مشوه تسبب في زيادة نسب الطلاق بشكل مخيف.
فبعض الأعمال الفنية قد يكون دورها هو تقديم الواقع الغائب، وبعضها الآخر قد يكون دوره هو تقديم حلول، وفتح أعيننا على ما نستحقه وليس ما نعيشه، ورسم الصورة الصحيحة للتعامل مع الأزمات حتى لو لم يكن موجودا، فدور الفن لا يقف عند الحاضر بل أيضا تصحيح هذا الحاضر ورسم مستقبله، وذلك بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية، والتي اعتبرها البعض نقطة ضعف داخل المسلسل، بينما من حق المرأة أيا كانت طبقتها الاجتماعية أن تحظى بطلاق إيجابي، وفي النهاية “البحث عن علا” كعمل فني هو خطوة أولي في طريق البحث عن المرأة المصرية الحقيقية.