عشت طفولتي ومراهقتي في عصر ما قبل الفضائيات، ولهذا فقد مال كلا من أبي وأمي إلى فقرة الترفيه الصباحية التي تسبق النزول إلى المدرسة والعمل من خلال الراديو..فاستمعت في صغري لآلاف الحلقات الإذاعية من “كلمتين وبس” والتي يعني سماعنا لمقدمتها المميزة أن بابا سيطمئنا عليه هاتفياً بسلامة وصوله إلى العمل حوالي الثامنة إلا الربع من صباح كل يوم.
استمعت كذلك مئات المرات إلى صوت الفنان الراحل “رأفت فهيم” وهو يخبر المواطن إياه انه “فوت علينا بكرة يا سيد” من خلال برنامجه الأشهر (همسة عتاب)… ومع الوقت والخبرة تعرفت إلى كنوز إذاعية في شكل سهرات ومسلسلات وبرامج دينية وتثقيفية وكوميدية بالعشرات، تعرفت كذلك على إذاعة أم كلثوم، التي كان الاستمتاع بها يرتقي إلى مكانة التقديس في بيتنا، ثم إلى إذاعة البرنامج الثقافي لأستمع من خلال أثيرها إلى مئات المسرحيات العربية والعالمية وغيرها من الكنوز، فإذاعة البرنامج الموسيقي التي تقدم وجبات موسيقية مهمة ودسمة من مختلف الثقافات –رغم التكرار المزعج لها-.
قبل أيام كتب صديقي “عمرو وهبة” على صفحته على فيسبوك كلمات لها مغزى عميق أنقلها لكم كما هي:
عندك… (جدييييييد) …. استنى دقيقة… (محمددددد حماقي)…. هتجنن منك شوفلي طريقة…. (حصصصصرييييااااا) … واعمل معروف… (على نجووووم إف إم) … بطل تقلق بطل خوف… (أغنية جدييييدة).. بتقولي عيونك مكسوف… (من ألبوم عمره ما يغيب).
ما بين الأقواس في كلمات عمرو، كان التعليق الصوتي الذي تخلل إذاعة الأغنية، وهي العمل الفني الذي يجب أن نتعامل معه كوحدة واحدة بلا إجتزاء أو لغط… هذا هو المفترض، هذا هو المنطق، وبغض النظر عن جودة وقيمة الأغنية أو العمل الذي نتابعه في الراديو فلا يجب أبداً أن تتم (الشوشرة) عليه بتلك الطريقة المنفرة، خصوصاً وان التعليق الصوتي المذكور لم يُضف أية معلومة جديدة، ومن الممكن دوماً ان يُتلى علينا قبل إذاعة الأغنية مباشرة.
تقلقني للغاية إجابة السؤال العويص: لماذا تاه الراديو في الزحمة، وكف معظمنا عن الاستماع له والاستمتاع به؟؟!!
سأبدأ معكم من الإذاعات الشبابية الخفيفة، والتي أرى في تقييمي الخاص لها أن الوضع القائم بها أصبح مرتبكاً بهذه الصورة لأن القائمين عليها –بوعي منهم أو بدون- اختاروا أن يقدموا لنا محتوى شبه موحد على كافة الترددات، فالأغاني هي هي ، وأصوات الكثير من المذيعين والمذيعات أصبحت تفتقر للكاريزما، وحتى حين تم إضافة برامج خفيفة إلى خريطة تلك الإذاعات، أصبحت تناقش موضوعات بلا طعم أو جديد – إلا نادراً-.
هنا أتحدث كشاب مصري يقود سيارته لمسافات طويلة في الزحام ولا يُرفه عنه إلا الراديو، فيقوم بتغيير الترددات من محطة لأخرى ولا يجد إلا كلام أجوف مكرر، وحالة من البَلَه واللطافة تنتاب الكثير من المذيعين، وأغاني متماثلة موزعة بين معظم المحطات، القليل جداً من التفاعل بين الجمهور والمحطة، والكثير جداً من الإعلانات.
وعن نفسي، لم أستطع حتى الآن التفريق بين مختلف الإذاعات الشبابية الخفيفة وبعضها، فلا هوية واضحة تمنعني من الخلط بين نجوم إف إم أو راديو هيتس أو ميجا إف إم ونغم إف إم… برامج في توقيتات متشابهة، بأسماء متشابهة، ومذيعون ومذيعات يفكرون ويفكرن بذات الطريقة، يفكرون بناءً على فورمات متماثل هو (كلمتين – أغنية – إعلانات – إعلانات – إعلانات – أغنية – أغنية – كلمتين .. وهكذا)
نجاح “نجوم إف إم” الساحق في جذب الآلاف إليها قبل سنوات، يبدو أنه كان مؤثرا للغاية، وبمنطق فلان فتح محل كشري ونجح، فهيا نفتح محل كشري آخر بجواره.. تم استنساخ نجوم إف إم أكثر من مرة.. وكانت النتيجة البديهية والحتمية هي هروب (الزبون) من الجميع بما فيهم (الألفة) نجوم إف إم خصوصاً مع تراجع مستواها وسيطرة الإعلانات عليها بصورة فجة.
زحمة المحطات الشبابية الخفيفة هم فقط المسؤولون عنها، فقد اختاروا جميعاً أن يكونوا نسخاً مكررة، فلم يفكر أحدهم خارج صندوق (الألفة).. فكان أن ضاعت عليهم و علينا الكثير من الأفكار البسيطة السهلة التي ترسخ لبعض الاختلاف.
طال المقال للغاية الآن، ويجب عليَ إنهاؤه، لذا فإنني ساتوقف هنا واعداً بأنني سأستكمل معكم الكلام حول الإذاعات في الحلقات القادمة.
فإلى اللقاء