تعرفت على صديقي المثقف والمبدع ميشيل حنا في عام 2006، كان حينها يكتب بموقع «بص وطل»، أحد التجارب الرائدة والمبكرة في مجال الصحافة الإلكترونية (قصة تستحق أن تروى وسيرة يجب أن توثق)، وكنت ضمن فريق الموقع الذي تشرفت خلاله بصداقة موهوبين مبدعين صار أغلبهم الآن “نجوما” بالمعنى الحقيقي للكلمة في الصحافة والكتابة الإبداعية والإعلام الرياضي.
كنت أتابع ميشيل بشغف شديد، امتلك أسلوبه مبكرا، وظهرت موهبته حارقة كالشمس، كاتب مقال بارع لا يُشق له غبار، ثقافته واسعة ومتعددة الروافد فهو يقرأ بالعربية والإنجليزية (وأظنه يجيد بعض الفرنسية أيضا)، وأتاحت له فرصة النشر الإلكتروني أن يصول ويجول في كل الموضوعات، ويجرب معظم أشكال الكتابة خاصة في جانبها الصحفي، ويستحضر مبكرا كتابة “الحنين إلى الثمانينيات والتسعينيات” التي صارت موضة بعد ذلك، وقلدها الكثيرون بوعي أو بدون.
دراسته العلمية (تخرج في كلية الصيدلة) وفكره المرتب والمنطقي كانا من أكبر العوامل (في ظني) لتطويع أي مادة مهما بدت صعبة أو مستغلقة على الشرح والإفهام بين يديه، فضلا عن طريقة العرض الجذابة ومراعاة التشويق، لكن أهم ما يميز كتابة المقال لدى ميشيل، هو تلك القدرة الفذة (أكرر الفذة) على التقاط زاوية النظر للموضوع أو القضية التي يكتب عنها، عينه راصدة لاقطة حساسة بصورة مدهشة، تلفت نظره صورة فنانة عالمية منشورة في جريدة عربية، يظهر كتفها عاريا، فتجري الجريدة تعديلا ببرنامج الفوتوشوب لتغطية هذه المساحة. هل وقف أحد على هذا التعديل غير الملحوظ؟ ميشيل وحده هو الذي اصطاد هذه الواقعة واشتغل عليها وكتب عنها واحدا من أجمل مقالاته وأكثرها سخرية ومرارة معا في نقد الثقافة والمجتمع والفكر المحنط.
وميشيل غزير الكتابة، يكتب المقال العلمي، ويبحث عن الموضوعات الجذابة وغير المألوفة، دائرة اهتماماته راوحت بين الثقافة العلمية والخيال العلمي والتاريخ والبحث عن الغرائب والولع بكل ما هو بصري (الصورة الفوتوغرافية والقصة المصورة والسينما)، كل ذلك بموازاة عشق خاص وفريد للكتابة الإبداعية القصصية، اكتشفت بعد فترة من متابعتي لمقالاته أنه قاص “عقر”، كاتب قصة “قراري”، استوعب أصول الفن وروحه، وكتب قصصا عديدة، جمع بعضها في مجموعة «الجانب المظلم من القمر» التي تفاجأت بأنها حازت الجائزة الأولى في المسابقة المركزية لهيئة قصور الثقافة وهو لم يعلن أو يحتفي بهذه الجائزة شأن غيره، وعندما صدرت المجموعة أذكر أنني اقتنيت منها عشرات النسخ لتوزيعها على الأصدقاء المحبين للقصة، متحمسا ومبالغا في الحماس لهذه المجموعة اللافتة، ولغتها الخاصة، وروح السخرية المتشائمة السارية بين السطور (سمة باتت رئيسية في كل كتابات ميشيل الإبداعية وغيرها).
منذ عدة أشهر أهداني ميشيل مجموعتيه القصصيتين «خطأ 404»، و«برج الموتى»، الصادرتين عن دار سبارك للنشر والتوزيع، تأخرت كثيرا في قراءتهما للانشغالات اليومية التي تطول وقد تصل إلى أشهر دون انقطاع (والله العظيم!)، ولا يملك المرء فرارا أو هربا، لكني أخيرا انتهيت منهما، ولم يخب ظني، ولم ينخفض سقف التوقع الذي علا وارتفع منذ قرأت ميشيل أول مرة.
الموهبة باذخة، الأفكار جديدة، والخيال كعادته مشتعل ومبتكر، سخرية لا تهدأ ولا تكل ولا تمل، روح التشاؤم والعبث مع ميول سادية للعدمية ورفع شعار “ما فيش فايدة” (دائما ما أعابثه بقولي إنك رجل المافيش فايدة.. مش عاجبك حاجة أبدا.. منزوع الرضا.. فاقد الطمأنينة)، المجموعتان ورغم اختلاف السياق الفني وتباين اللغة بينهما واعتماد أحدهما بشكل كامل على “الحوارية”، فإنهما تجربتان فريدتان وتستحقان الاهتمام والقراءة.
مفتاح قراءة القصص في ظني يكمن في “رصد التناقض” أو ما يسميه النقاد ومؤرخو الأنواع الأدبية “المفارقة”، ميشيل ممن أوتوا موهبة رصد التناقضات على كل المستويات، الوعي بالمسافة بين الفكر والسلوك، المعلن والمضمر، السائد والرائج والطموح للتغيير والثورة على السائد، لديه قدرة تحليلية فائقة على مراجعة كل الظواهر الإنسانية في علاقاتها المختلفة، ستجده متأملا لأفكار وظواهر شديدة الاعتيادية ومألوفة جدا لكنها تقوده في النهاية إلى طرح أسئلة كبرى حول الوجود والمصير والغاية من الحياة ومن ثم الموت، وستدهش إذا أدركت أن براعة ميشيل وموهبته تجعل طرح هذه الأسئلة في صورة فنية غاية في السلاسة والبساطة والعمق أيضا.
المفارقات التي اشتغل عليها ميشيل، خاصة في مجموعته «خطأ 404»، مفارقات غنية تصنع دراما عظيمة، لكنه غلفها أيضا بحسه الساخر ورؤيته المتشائمة، وأستطيع أن أقول دون مجازفة إن توظيف ميشيل للعامية في السرد القصصي أسس لجماليات جديدة ومبتكرة في حاجة إلى باحث شاب دؤوب يخضعها لدراسة أسلوبية محترمة، تكشف عن تركيبة الجملة واستخدام المفردات والتقاط الألفاظ المستحدثة في سياقها الثقافي والاجتماعي خاصة في السنوات الأولى من الألفية الثالثة.
تتبدى خبرة ميشيل الحياتية والتجارب الإنسانية التي مر بها من خلال عمله كصيدلي، يبيع الدواء ويقابل أنماطا من البشر أشكالا وألوانا، ينتمون لشرائح اجتماعية متباينة وطبقات متفاوتة، أحسن ميشيل استغلالها كما ينبغي واستقى منها نماذج جسدها ببراعة في حوارياته القصصية، ينصت ميشيل باهتمام شديد لما تقوله العيون وتلمح إليه الوجوه وتخفيه أيضا، يقتنص لحظات عابرة لا تخيب، ويصوغها برشاقة خفة تصل بك في بعض المواضع للانفجار ضحكا، ثم لا تدري بعدها لماذا هذا الطعم المر في الحلق، وما إذا كانت هذه الدمعة المنزلقة على خدك حقيقة أم وهما.
حواريات «خطأ 404» فكرتها تقوم ببساطة على حوارات بين اثنين، أم وابنتها، زوج وزوجه، زملاء وردية ليل، مريض باحث عن دواء وطبيب الصيدلية.. إلخ، وكلها مكتوبة بالعامية المصرية، ومن الحوارية الأولى التي كتبها تحت اسم “مقدمة” يظهر وعي ميشيل بأن هناك “حاجة غلط”، هناك فقدان للتواصل بين البشر (أو ليس المصريون بشرا؟) يتكلمون لغة واحدة ويجمعهم وطن واحد، وتشغلهم هموم واحدة، لكنهم لا يفهمون بعضهم بعضا، هل المشكلة مشكلة تعبير؟ أم أنها أشمل وأعم من ذلك؟
في رأيي، ميشيل كاتب حوار من الدرجة الأولى، ولا أعلم لماذا يغيب عن صناع السينما هذه الموهبة الكبيرة في كتابة الحوار (لاحظ صديقي الناقد الكبير محمود عبد الشكور هذه المقدرة العظيمة في كتابة الحوار مقترحا على ميشيل استثمارها في الكتابة للمسرح، وهذه مسألة محل نظر وموضع نقاش لاعتبارات يمكن الحديث عنها في ما بعد). ملاحظة أخيرة حول الشكل الحواري المجرد الذي كتب به ميشيل نصوصه (أطلق عليها قصصا قصيرة على غلاف المجموعة)، لكنني أظن أن هذا الشكل الحواري لن يمر بالساهل على نقاد ومعنيين بإشكالية النوع الأدبي، أظنه مغريا لنقاد عبر النوعية والبحث عن نظرية للأنواع الأدبية.
أعلم أن مقالا واحد لا يكفي للإحاطة بجوانب كتابة ميشيل واهتماماته المتعددة والواسعة، وعاداته العجيبة واهتماماته الأكثر عجبا، وكذلك هو يعلم أني أتابعه منذ سنوات وأتقصى كل ما يكتب وأقرأ باهتمام ما ينشره هنا أو هناك، ولعلي في يوم أرجو أن يكون قريبا أن أفي بوعدي له وأفرغ من الدراسة التي وعدت بها عن كتاباته وأعماله الإبداعية والصحفية والبحثية والتاريخية.
وبرضه ما فيش فايدة يا ميشيل! مش كده ولا إيه!