القياس الحقيقي لنجاح الصحف ليس بطول أجلها بل بعمق تأثيرها
بعض التجارب الصحفية عبر تاريخ هذه المهنة العظيمة كانت شهبا مهمتها ان تنير حتي لو احترقت،التحرير منذ صدرت وحتي نهار هذا اليوم واحدة من تلك الشهب.
الاعمار القصيرة للصحف ليست دليلا بالضرورة علي علة الصحة بل علي عافية الموقف ، وكم من عظماء غيروا الدنيا خطفهم منا الموت في ريعان ريان عطائهم ، لكنهم كانوا قد أوفوا حين أعطوا.
وقد عاشت التحرير عمرها القصير تحفر طريقا مختلفا ومغايرا ومجددا في المضون الصحفي والشكل الفني فى الوقت الذى تتكبل فيه الصحافة المصرية فى مدارس وصيغ تقليدية قديمة لصحافة منقطعة الصلة بعصرها فكانت التحرير كما كل تجربة تنشد المستقبل يشدها الماضي وكما كل تجربة تهدف التجديد يعاندها الجمود.
صدرت التحرير مع زحام واقع ما بعد ثورة يناير وارتطام الحلم بحواجزه وموج الثورة بصخوره وفي مرحلة سياسية ونفسية مختلطة ومشوشة ومرتبكة كانت التحرير خلالها تعرف ماذا تريد بالضبط بينما يتخبط كل من حولها فينتظر كل طرف منها ان تقول ما يعجبه فيحييها فان خالفته رماها بالطعون والمطاعن ، لهذا لم يرض عنها أحد ، وإن اكتسبت هي احترامها لمهنتها ، كانت شجاعة في اعلان مواقفها حتي وهي تختلف حتي القطيعة مع إدارة المجلس العسكري يوم صدرت هذه الجريدة وحدها في مصر بصورة الفتاة المسحولة في ميدان التحرير وبعنوان صار بعدها ملهما لحملة نشطاء.
وهي كذلك اختلفت مع هؤلاء النشطاء انفسهم يوم انجذبوا وراء الاخوان وحازم ابو اسماعيل ووراء غريزة العدوان والانتقام، يوم كانت التحرير واضحة في انحياز ضد مرشح الجماعة الخائنة وضد شبيهه المتلون وضد وجه النظام الاسبق واخترنا الرهان علي المرشح الوطني حمدين صباحي وقد فزع منا كثيرون يوم رفضنا ان نعصر الليمون وان نقف كالسذج نناصر عدو الوطنية وابن العصابة السرية ليحكم مصر وتحملنا في ذلك الكثير من السخافات والانحطاطات .
وحين تولي محمد مرسي حكم مصر كانت التحرير أول طلقة في هدم حصنه وعقب مرور المائة يوم الاولي لرئاسته كانت حربا عوانا عليه هو وجماعته وعصابته فكانت الصحيفة التي انفردت بنشر حلقات سر المعبد للكاتب ثروت الخرباوي التي كشف فيها الخرباوي في منتهي الشجاعة والجسارة معبد كهنوت هذه الجماعة وتحولت بعدها الحلقات الي كتاب مدو في نجاحه. وكانت هذه الصحيفة هي التي تشرفت بمربعات شاعرنا الأجمل والأنبل والاعظم عبدالرحمن الابنودي الذي كان ينشر يوميا علي صفحتها الاخيرة اشراقة نور تضرب في عتمة الحكم الاخواني وصارت أنجيل المواجهة النبيلة.
كانت هذه الصحيفة تقاتل حكم المرشد ببسالة وشجاعة فيما صحف اخري اختبأت كالعادة وراء وهم الحياد وتحججت بادعاءات المهنية كي تنحني امام المد الظلامي بل وتغازله وتستضيف علي صفحاته رموزه وكتابه.
لقد كنا يومها علي حافة تهدد حياة الجريدة ليس فقط باستهداف صحفييها او تهديد مقرها او ترويع صناعها بل باغلاقها نتيجة مصاعب مالية تشاركت ظروف كثيرة في صناعتها او اصطناعها وبينما هي علي وشك لقاء مع حتفها قيض الله لها مالكا جديدا هو المهندس اكمل قرطام ، للغرابة فهو لم يكن من قرائها أو متابعيها ولم تكن تلبي ذائقته كقارئ يفضل الصحافة الاخبارية الرصينة المعلوماتية لكنه كان معجبا بشجاعتها ومؤمنا برسالتها ومتحالفا مع موقفها المناضل في التصدي لجماعة الاخوان وحكم المرشد ، والثابت أنه تسلمها قبل أسابيع من ثورة يونيه لم يكن أحد فينا يعلم ما مصيره وراء مصير ثلاثين يونيه وهل كانت الجريدة ستصمد بل هل كان صحفيوها واصحابها الجدد سيظلون أحرارا ام ستغلق عليهم بعد اسابيع ابواب السجون او ربما أسقف القبور ، ولكنها كانت لحظة استحقت من الجميع التكاتف ، وخضنا معا أهم أيام مصر حتي ان مظاهرات الاخوان بالأسلحة والزجاجات الحارقة قصدت الجريدة مع غيرها من الصحف وكانت عنوانا دائما للاستهداف فلم ينس الارهابيون أبدا لهذه الصحيفة أنها هي التي رفعت الكارت الأحمر علي صفحاتها للاخوان وحمل الناس الجريدة بديلا عن اللافتات والاعلام احيانا في مظاهرات ثلاثين يونيه .
أهم ما فعلته هذه الصحيفة أنها أثبتت أنه يمكن ان تكون هناك صحيفة مستقلة فعلا ، حتي مستقلة عن مالكيها فيوم شعر مالك هذه الصحيفة الاول المهندس ابراهيم المعلم بأن الجريدة تبعد كثيرا عما يعتنقه وتختلف جذريا عما يريده رفع اسمه من الجريدة ولم يطلب منها ان تغير حرفا او تستدير عائدة من طريق سارت عليه ، وحين ترأس المهندس اكمل قرطام مجلس إدارتها وهو رئيس لحزب سياسي معروف احترم دستورها فلم يمس استقلالها ولم يطلب من جريدته موقفا لحزبه او دعما لسياسته ، بل كان ولعله لايزال يختلف مع كثير أو قليل من الاراء المنشورة فيها دون ان يعلن او يومئ بموقف وهي ظاهرة مهمة للغاية في عالم الصحافة الخاصة التي تتشابك فيها الملكية مع التحرير وتتقاطع فيها رغبات المالك مع أهداف الجريدة.
لم تكن هذه الجريدة أبدا ممن يراجع مالكوها صفحاتها او يتدخل اصحابها في سياستها او يحذف احدهم او يضيف او يأمر أو يكلف
لم تكن التحرير الا مستقلة لم تخدم مصالح مالكين او يتم استخدامها لتمرير وتجسير علاقات بين النفوذ والثروة ولم يستثمرها أحد خارج حدود المهنة فلم تصنع حملات لتتحامل علي جهة ما ولم تصف حسابات أحد علي حساب شرفها المهني.
هذه علامة نور في طريق الصحافة الخاصة وهو ليس مضيئا طول الوقت
ان تكون صحيفة شجاعة جسورة
ان تكون مستقلة لم تتنازل حتي امام قارئيها الذين يريدون لها مسارا يناسب تشتت بعضهم او عواطف بعضهم الاخر ، ولم تخضع لابتزاز نشطاء او فرقاء او اصدقاء قدامي ارادوا لها ان تكون صفحتهم علي الفيس او متنفسهم للعدوان والعدمية فأمطروها باللعنات
إن غياب صحيفة شجاعة هو حدث موجع مفجع مهنيا وعاطفيا
لكن التاريخ حين يحكي لنا المستقبل يؤكد ان الصحف أبدا لا تغرب إلا لتشرق ، حين تتداعي الأسباب لتوقف الطبعة الورقية لجريدة التحرير فإنها مدعوة لتواصل رسالتها عبر الطبعة الالكترونية والتي تضع أحمالا أثقل ومهاما أعقد فوق كاهل صناعها فوسط زحام الكتروني تحول الي فوضي مرورية ووسط انسحاب للمعايير وإهلاك لأخلاقيات المهنة عبر الفضاء الالكتروني فإن مهمة ان تنسج الصحيفة لنفسها نسيجا خاصا وان تشق لها معبرا آمنا باتت أخطر وأعقد مما يجعلنا جميعا نراهن علي زملاء أعزاء نابهين سيواصلون ما بدأناه ، يصححون ما أخطأنا فيه و يصوبون ما تهنا عنه ويكملون نواقصنا ويسدون ثغراتنا ويبنون علي ما أسسنا ويرفعون ما بنياه.
لن تغيب التحرير أبدا
هي فقط تغير قطارها ولا تغير محطتها .