قصتنا تبدأ هناك في أمريكا، عام 1916، عندما أعيد انتخاب وودرو ويلسون رئيسا لأمريكا بعد حملة شعارها الرئيسي «هو جنبّنا الحرب»، هو ويلسون، والحرب هي الحرب العالمية الأولى، التي كانت تكمل عامها الثالث، وكان يُطلق عليها في أمريكا وقتها «الحرب الأوروبية». وبسبب ألاعيب السياسة قرر الرئيس الذي أبعد جمهوره عن الحرب فأعادوا انتخابه، أن مصلحته أن يدفع بالقوات الأمريكية إلى الحرب خلافا لما وعد به، ورطة كبيرة، قرر السياسي المحنك أن حلها بسيط. ذهب إلى صحفي.
اسمه، جورج كريل، صحفي تحقيقات، وسياسي أمريكي، ترأس فيما بعد «لجنة كريل» التى أسسها الرئيس ويلسون لحشد الجمهور المسالم وقتها ودفعهم إلى تأييد الحرب، وكانت النتيجة مذهلة، يرصدها المفكر الكبير ناعوم تشومسكي في كتابه «السيطرة على الإعلام»: «فى تلك الأثناء كان المواطنون مسالمين لأقصي الدرجات، ولم يروا سببا للانخراط والتورط في حرب أوروبية في الأساس، بينما كان على إدارة ويلسون التزامات تجاه الحرب، ومن ثم كان عليها فعل شيء ما حيال هذا الأمر، فقامت الإدارة بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها «لجنة كريل» نجحت خلال ستة أشهر بحملات إعلامية بالغة الضخامة، عبر ُكل وسائل الإعلام في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم الهستيريا والتعطش للحرب، والرغبة في تدمير كُل ما هو ألماني، وخوض حرب، وإنقاذ العالم».
بعد انتهاء الحرب بسنوات قليلة، طور صحفي آخر، هو ولتر ليبمان، أحد أهم منظرى أفكار «الرأي العام» و«ثقافة الجمهور» القصة في إطار نظري أكثر وضوحا ودقة، فشرح في كتابه «الرأي العام» الذي صدر 1922:الشعب مثل قطيع حائر وجاهل، لابد من إدارته عن طريق مجموعة من المسؤولين، فئة خاصة، تمكنها مصالحها وأعمالها من الوصول إلى كُل المعلومات الممكنة وتستطيع بفضل ذكائها الذي أوصلها لأماكنها في المجتمع، التفكير والتخطيط لحاضر ومستقبل «القطيع الضال»، وبنظام محكم كهذا: نخبة تفكر وتخطط وشعب يسمع ويطيع، يمكن تعويض العيب الرئيسي في فكرة الديمقراطية وهى افتراض أن المواطن واع ومؤهل للاختيار والحكم على الأمور.
ينقسم المجتمع، أي مجتمع، أمريكي أو مصري، طبقا لتفسير ليبمان المعتمد بشكل واسع فيما بعد إلى ثلاثة: نادي القطيع الضال- كاتب المقال يفترض أنه من أعضائه-، ونادى النخبة، ويضم النافذين في صياغة أفكار المجتمع ونشرها، ونادي الدولة بالقائمين عليها ومحبيها على بُعد خطوتين منها يمينا ويسارا. الدولة ومسؤولوها وداعموها من رجال الأعمال والإعلام يمارسون يوميا مهمتهم المقدسة، في إدارة شؤون الجمهور/ القطيع الضال والتخطيط لمستقبلهم لأنهم أغبياء وغير مؤهلين، ودوما تنقل الرسائل من الطرف الأول نادي النخبة إلى الطرف الثاني نادي القطيع الضال عبر الإعلام.
أنت رجل أعمال، قررت المراهنة بمبلغ من 30 إلى 50 مليون جنيه، ولديك فائض رأس مال سائل، ترجمته إلى فائض مخاطرة، تجعلك قويا وجريئا وشجاعا لتراهن بهذا المبلغ رهانا غير مضمون، ولديك فائض مشروعات تدر أرباحا طائلة بحيث تقرر أن تستثمر أموالك في صناعة أرباحها لا تتعدى 10% في مقابل مجالات أخرى تتعدى أرباحها 75% من رأس المال، بالتأكيد لديك رسالة تريد إيصالها أولا، وبالتأكيد لديك إجمالي ثروة تقدر بأضعاف الرقم الذي فرضته ظروف السوق لتأسيس صحيفة يومية في مصر، إذن أنت في الغالب على بعد خطوتين من النظام الحاكم، يمينا أو يسارا، هما خطوتان فقط، تسمحان لك بالاختلاف أحيانا والاتفاق معظم الأحيان، أفكاركم تقريبا واحدة والاختلافات عادة على أسلوب التنفيذ، يمينا ويسارا. يختار المالك القابع على بُعد خطوتين من النظام، رئيس تحريره عادة بنفس الطريقة، يمينا ويسارا على بُعد خطوتين، وفى المسافة بين المالك والحُكام، والمسافة بين المالك ورئيس التحرير، يمكن ممارسة المهنة بحد أدنى من المهنة، والرقص والحجل والتطبيل حتى النشوة. كرر التجربة 5 أو 20 مرة، يُصبح لديك 5 أو 20 صحيفة يومية، لا فروق حقيقية، فالاختلافات كُلها في طريقة الحجل والرقص والتطبيل. المانشيت واحد، واسم وشعار الجريدة مختلف. الأخبار واحدة، ليس لأن رجلا جالسا في مكتب مظلم يمُلي أخبار الصباح على غرف الأخبار، ولكن لأن النظام يجعلنا نسخا -باختلافات طفيفة- لنفس المانشيت.
تقلص قناة اشتهرت وقت الثورة بمذيعيها الثوريين من مساحات ظهورهم، بل تُخفي بعضهم لصالح مُذيع يرفع من أسهم القناة في صناعة الهستيريا الوطنية، وبعد عام، يزايد الجميع على الجميع، فتضطر نفس القناة لتقليص مساحات البرامج الرزينة الباقية، لصالح مذيع آخر يصرخ بطريقة مختلفة عن المذيع الأول، وهكذا تتوالي صناعة الصُراخ والهستيريا، تقول تقارير المشاهدة إن نسب مشاهدة البرامج السياسية انهارت تماما في نهاية عام 2013 لصالح برامج المنوعات (ذا فويس، وأراب أيدول)، وهو ما يدفع القنوات بشكل تلقائي إلى تقليص مساحات السياسة لصالح مساحات الترفيه، ولكن لا أحد يطرح السؤال الصحيح، هل انهيار نسب مشاهدة البرامج السياسية نتيجة لملل مفاجئ أصاب الجمهور، أم لانخفاض مفاجئ في سقف البرامج السياسية، حولها لبرامج بلا روح، يعفّ عنها الجمهور.
تسأل وسائل الإعلام يوميا: هل أنت مع الإرهاب أو ضده؟ هل توافق على هدم الدولة؟ هل تُحب الفوضى؟ ويرد الجمهور بصوت عال، «اسمي قطيع ولست إرهابيا، وأحب مصر، ولا أريد هدم الدولة ولا أحب الفوضى»، تسأل وسائل الإعلام السؤال الخاطئ، لتضليل القطيع. جميعنا ضد الإرهاب، ولا يوجد عاقل يريد هدم الدولة التي يعيش فيها، أو يحب فوضى تقوض حياته شخصيا، ولكن من حق القطيع أن يعرف إجابات أسئلة أخرى أهم :هل السياسة التي تنفذها الدولة ضد الإرهاب ناجحة أم فاشلة؟ لماذا تتزايد وتيرة العمليات الإرهابية كُلما زادت المدة التي نحارب فيها الإرهاب؟ هل يتم التحقيق في إهمال أو تراخي قيادات الأمن الذي يؤدي لحدوث كوارث إرهابية؟ ما هي آلية اتخاذ القرار داخل الجهاز الأمني المصري؟ لماذا ينضم ضباط سابقون إلى الجماعات الإرهابية؟ ما هي التدريبات التي يتلقاها الجنود قبل أن يرسلوا للتضحية بدمائهم بشكل دوري في سيناء وغيرها؟. يُضلل الجمهور من خلال طرح أسئلة خطأ، وتتصاعد هستيريا غبية مثل حُمى جماعية، يصرخ فيها الجميع، «تحيا مصر» وكأن كُل مواطن يسير في الشارع مطالب بإثبات وطنيته ورفضه للإرهاب والفوضى والدمار، كُل ساعة وكُل دقيقة، فلا يتبقى لديه وقت ليفكر أو يسأل.
نقلًا عن “المصري اليوم”