عمرو منير دهب
“صنّاع الموضة يدركون حقيقة التأثير الطاغي للجماهير في عالمهم ويستغلونها بذكاء ماكر، لكنهم على الأرجح مثل كل مبدع يستولي عليهم الغرور ردحًا من الزمان قبل أن يدركوا أنهم بلا قيمة دون جماهيرهم التي تشكّل كما رأينا حالة شديدة الخصوصية من الإلهام مع إبداع الموضة، بما يصل حدّ الإغراء بزعم أن صانعي الموضة في حالة سرقة دائمة لإحساس الجماهير”.
ذلك مما ورد في كتاب “كل شيء في الحياة موضة” تحت عنوان “التابعون يقودون العالم”، فهل يصحّ بصورة موازية القول بأن المشاهير في حالة سرقة دائمة لإحساس الجماهير؟ الأرجح نعم، فالمشاهير دقيقو الاطّلاع على إحساس الجماهير حتى يتسنّى لهم أن يغرّدوا بما يطرب تلك الجماهير ولا يصدحوا بما يزعجها أو لا يروقها، فهم والحال كتلك يسرقون إحساس الجماهير بدرجة أو بأخرى، أو على الأقل يتلصصون عليه ليبدعوا استجابة بما يوافقه.
وعندما يكون المبدع متمرّدًا فإنه كذلك يتابع إحساس الجماهير بصورة لصيقة ويستجيب له ولكن في الاتجاه المعاكس – أو على الأقل في اتجاه مغاير – وهو يثق بدرجة ما في أن تلك المخالفة لإحساس الجماهير السائد هي ما يضمن له قبولًا فريدًا بجديد يكسر عبره النمط السائد في أسواق تلقّي بضاعته من الإبداع الذي يروّجه للمعجبين. هذا وتبقى جسارة المخالفة لإحساس الجماهير بنمط فريد في الإبداع هي الحالة الأقل شيوعًا لدى مشاهير المبدعين قياسًا إلى اطمئنان أغلبهم إلى الإبداع بما يوافق هوى الجماهير، ولكن في الحالين تتم سرقة إحساس الجماهير أو على الأقل التلصّص عليه بدقة، وإن يكن التلبّس بتهمة السرقة أظهر وأكثر ثبوتًا لدى الحالة الأولى التي يجسدها أغلب المشاهير ممن يصحّ وصف إبداعهم بكونه صدى لهوى الجماهير.
ولكن الجماهير لا تعكس سوى الموضة الرائجة بحسب الزمان والمكان، وعليه فإن الاستجابة لإحساسها لا يعني سوى الاستجابة للموضة الرائجة بطريقة أو بأخرى قد تكون نقيضها. وعندما يكون إبداع المشهور مخالفًا لإحساس الجماهير على نحو ما أشرنا فإنه لا يعدو أن يكون طمعًا من المبدع المشهور في ترويج موضة جديدة على حساب موضة سائدة، أو على الأقل تحويرًا في الموضة السائدة.
نطالع مشاهير الأزمان السابقة على اختلافها فلا نملك ألّا نتساءل: ما الذي جعل الناس يعجبون بهذا أو تلك من مشاهير ذلك الزمان؟ وأحيانًا، وربما كثيرًا، يكون السؤال عمّا يجعل نمطًا بأسره من الإبداع جديرًا بالانتشار والحظوة. غير أن تتبّعًا متأنّيًا لسيرة الموضة على مرِّ الزمان يبيّن أن ما نستنكره من ضروب الإبداع التي حظيت بالشهرة في زمان ما كثيرًا ما يعود بتحوير – وأحيانًا بحذافيره – ليروج حبّاً وكرامة في زمان لاحق.
هكذا إذن، قد يُغمط مبدعٌ حقّه من الشهرة لمجرّد أنه يبدع في زمان أو مكان غير زمانه أو مكانه، وذلك ليس استنادًا إلى تجليات الشكوى الذائعة عن العبقريات التي تسبق زمانها وإنما باستدعاء تداعيات الموضة وآثارها العميقة على قبول الإبداع والمبدعين بحسب تقلّبات أذواق الجماهير من مكان إلى مكان، وبصورة أكثر جلاًء بتأثير الزمان لا سيما عبر الآماد المتباعدة.
الشهرة العابرة للزمان، أي الصالحة لكل زمان (ولكل مكان أيضًا)، هي حظ نادر. وبرغم أننا كثيرًا ما نسارع إلى التعميم عن بعض العظماء من الفلاسفة والأدباء والقادة – على سبيل المثال – بأنهم ظلوا ذائعي الصيت عبر القرون، فإن بعض التأنّي في النظر والحكم قد يجعلنا نتراجع عن تلك التعاميم المطلقة بدرجة أو بأخرى. فما أدرانا أن أولئك المشاهير قد ظلّوا كذلك دون انقطاع؟ التاريخ لا يحفظ إلا الأزمنة القوية وتسقط من ذاكرته الحقب خاملة الذكر من عمر الزمان، وعليه فإن عقودًا – وأحيانًا قرونًا – مديدة تكون قد مرّت في بعض الحالات قبل أن يستعيد قائد عظيم أو فنان عبقري – نظنّه خالدًا – حظوته وتأثيره على الناس. ولكن ذاكرتنا هي غالبًا انتقائية، فمن نعيدهم إلى حظوتنا من أبطال ومشاهير الأزمنة الغابرة قد نمنحهم اهتمامًا مبالغًا فيه من حيث عظمة تأثيرهم فننسى الحقب التي ظلّ ذكرُهم خلالها مغمورًا أو أقلّ بريقًا لأي من الأسباب.
ولأن الموضة تمضي في حركة أشبه بالدائرية، فإنها لا تصنع مشاهير كل زمان بصورة جديدة فحسب وإنما تعيد كذلك إلى الأضواء بعضًا من مشاهير الأزمنة التي مضت كلما عاد نمط إبداعهم فتسيّد الساحة على هذا الصعيد أو ذاك من أصعدة الإبداع.
يتربّع المشهور إذن على سدّة الشهرة بحسب مهارته في التعامل مع الموضة السائدة سواءٌ بالموافقة الذكية أو المخالفة المثيرة، وبإمكانه أن يحلّق في سماواتها لأمد طويل إذا كان نافذ البصر بحيث يفترع ما من شأنه أن يشكّل موضة جديدة قابلة للرواج. وإذا كان الخلود وهْمًا نحب أن نصدّق أنه من الممكن أن يصبح حقيقة، فإن أرفع المشاهير حظًا هم أولئك الذين ينسجون على منوال موضة صالحة لكل زمان ومكان، أو على الأقل تبدو كذلك.