محمد الفخراني
أحمد أسامة
في يوليو 2007م، أجرت «ماجازين ليترير» حواراً مع الروائي التركي أورهان باموق، بعد فوزه بجائزة نوبل بعام واحد، حيث حصل على شهرة واسعة، قال على نحو عرضي سريع، أنه إذا كتب صفحة واحدة في اليوم، فذلك أمر كافٍ لأن يكون سعيداً.
قال باموق إنه عاش في بيت استامبولي كلاسيكي فيه الكثير والجميل من السجّاد، ولعلّ صناعة السجاد نفسها تعلم الكاتب التأنّي في الكتابة. صفحة في اليوم الواحد، مثل حياكة بطيئة للسجّاد في يوم واحد أيضاً، هذا هو مزاجه الشخصي في الكتابة.
ينطبق ذلك أيضا على الكاتب المصري محمد الفخراني، حيث يملك حسا مختلفا ومزاجا مستقلا في الكتابة. يعد من القلائل الذين لا يحبذون الظهور في الوسط الثقافي، ولا يمتلكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يكتفي بالتواصل عبر البريد الالكتروني، إذا دعت الحاجة لذلك.
محمد الفخراني، كاتب مصري، حاصل على بكالوريوس العلوم- جيولوجيا، ويعمل كاتب حر. صدر له العديد من الأعمال الأدبية الإبداعية تنوعت بين الرواية والقصص القصيرة، حصل على عدة جوائز، منها: الجائزة الأولى للقصة القصيرة، نادي القصة بالقاهرة، عام 2002م، جائزة الدولة التشجيعية للقصة، عام 2012م، عن مجموعة “قبل أن يعرف البحر اسمه”، جائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة في مصر والعالم العربي عن مجموعته القصصية “قصص تلعب مع العالم” عام 2012م، كما ترجمت روايته فاصل للدهشة، إلى اللغة الفرنسية، وحصلت على جائزة المعهد العالم العربي عام 2014م.
يملك الفخراني وجهة نظر خاصة به عن الكتابة والإبداع الأدبي، فهو يكتب من أجل الكتابة، بدون أي انطباعات مسبقة، ودون توقعات لمشهد النهاية. يقرر أن أفكاره في العموم تأتي عن العالم، أحلامه وما يتخيله عن ذلك العالم، ما يريده له وما يريده لنفسه فيه. يرى أن دائما الواقع يكون أقل من الأحلام، وما يحصل عليه العالم أقل بكثير من مما نتمناه له. يرى أنه يكتب نفسه، وأنه موجود في كل الشخصيات والكائنات والأفكار التي يكتبها، فالتجريب هو ما يؤمن به، ويعتبره نبراسا يمشي عليه ويتقفى أثره، لاستكشاف طرق وعوالم جديدة للكتابة.
يكن الفخراني إعجابا شديدا للقصة القصيرة، فمنتوجه الأدبي قبل صدور عمله الأخير كان مناصفة بين المجموعة القصصية والرواية. يحب الصنفين بنفس الدرجة، يرى أن القصة لها حالة بديعة ومميزة وخاصة من الجمال حيث لا يشبهها في ذلك أي شيء آخر، يكتبها بطريقة توحي بأن هناك حالة حب بين الكاتب والقصة. يرى القصة شابة ذكية، جميلة، متمردة، لا تكبر في العمر، يمكنها أن تخطف حياة كاملة في طرفة عين، وتخترع عالمًا بضحكة واحدة منها. يمكن لأي أحد يقرأ القصة القصيرة أن يرى أن لها روح حية، مفتونة بالحياة والبقاء، كما أن الحياة مفتونة بروحها.
يصرح أن تجاربه الأولى بدأتْ بقصص عن نماذج إنسانية لفتَتْ نظره في الشارع، والحياة، ظل يحملها بداخله طوال الوقت بتفاصيلها، ويُضيف إليها من تفاصيله الشخصية، وروحه، نماذج يحب الكتابة عنها، ولمسَتْ شيئًا بداخله، عندما بكتب عن شخصيات الشارع بشعر أنه يكتب عن نفسه بشكل مباشر، عن شيء عميق داخل روحه، وامتدادات إنسانية لشخصه.
يفكر أنه يريد في البداية أشياء للقصة نفسها، أن تشعر القصة أنها جميلة، ممتعة، بها شيء مختلف، لديها ما يخصُّها وحدها، يحب أن تشعر القصة أنها لائقة للخروج للسهر، والمشي في الشوارع، والتجوال في العالم، أن تشعر هي أولًا بالرضا عن نفسها.
أما عن القارئ، يفكر له في إدراك شيء جديد عن العالم، وعن نفسه، يفكر له في مزيج من المتعة، الجمال، الدهشة، أن يترك في روحه كلمة، جملة، فكرة، إحساس، يحب أن يصف الكتابة بأنها فكرة تُجمِّل العالم.
يختار الفخراني فكرة قبل كتابة أية مجموعة قصصية، يضع مجموعة من القصص التي تدور داخل هذه الفكرة بتنويعات مختلفة، ويبدأ في الكتابة، يصب كامل تركيزه وجهده عليها، وينتهي منها خلال شهرين على الأكثر، كما صرح بذلك في حوار أجراه سابقا مع جريدة الدستور.
لا يحب أن يستغرق وقتًا طويلًا في كتابة عمل ما، سواء مجموعة قصصية أو رواية، حتى لا يشعر بالمَلَل، أو تتملكه رغبة الانتقال إلى عمل جديد. لا شىء يهدِّد استكماله أي عمل إبداعي غير أن يتغيَّر مزاجه الشخصي، أو يشعر بملَل ما. فيما يخصُّ القصة، أو الرواية، يعتقد أن ليست هناك صعوبات، ما دامت الفكرة موجودة، والمزاج الفني والشخصي ملائم لوقت كاف، فلا مشكلة، فقط ستكون هناك أفكار واختيارات يطرحها النصّ أثناء الكتابة.
قبل الشروع في الكتابة يكون المَدخل لقطة يتصورها، أو جملة تضيء داخل عقله، أو شيء يكتشفه لأول مرة، أو يعيد اكتشافه برؤية جديدة، أو غير ذلك. أثناء الكتابة يكون المدخل جملة سهلة بسيطة تُعبِر عن شخصية القصة، أو تعطي لمحة عنها، أو تُمِوِّه شخصيتها.
كل شيء في القصة مهم، وبالدرجة نفسها، سواء كان مرئيًا أو غير مرئي، يهتم بفكرة القصة، فيدفع بلقطات وصور وشخصيات وألاعيب فنية، وبالجُمَل واللغة كلها معًا، وتفاصيل أخرى، لترسم الفكرة، وتُحوِّلها إلى روح ممتعة، يهتم بما يُسمَّى “فضاء القصة”، وهو بمثابة سماء غير مرئية للنصّ، والعمل على خلق جوّ خاص، حالة ومزاج شخصي للقصة، أو النص عمومًا.
يرى أن مراحل صدور مجموعاته القصصية نعبر عن مراحل تطوره شخصيا، إلا أنه لا يتوقف عند ذلك كثيرا، يحب أن أكتب، فليست هناك نقطة للوصول، المدى مفتوح، والأنفاس لا يمكن التقاطها إلا بالكتابة، سيان كانت النتيجة قصة أم رواية، فالعالم بالنسبة إليه عبارة عن قصص وروايات.
في روايته فاصل للدهشة الصادرة عن دار الدار عام 2007م، ركز الفخراني على عالم المهمشين والمسحوقين، هؤلاء الذين لفظهم المجتمع رغم أحقيتهم بالانضواء تحت مظلته، إلا أن الحياة طحنتهم وسحقتهم ولم ترحمهم، وزاد عليه الأسى عند لفظ المجتمع لهم، استخدم الفخراني ألفاظ وتعبيرات خشنة وشديدة القسوة، نابعة من قاع الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية، للتدليل على أن طاحونة الحياة لا ترحم.
أما في مجموعته القصصية ” قبل أن يعرف البحر اسمه” الصادرة عن دار ميريت عام 2010م، يصنع الفخراني عالما خياليا منفردا خاصا، يتكون من عدة عوالم متخيلة، فالبطولة لا تقتصر على الشخصيات، بل تمتد لتشمل الحيوانات والجماد، البحار والجبال، قارب يقع في حب سحابة، غابة تسعى لإسعاد ابنتها المقبلة على الزواج. يُعيد الفخراني تركيب العالم و مفرداته بعد تفكيكه و احالته الي عناصره الأولى، بأسلوب سردي غاية في العذوبة والرقة، تجبر القارىء لا إراديا على إعادة نظره في علاقته بالأشياء من حوله، وعلاقته بالعالم.
أما في مجموعته القصصية التالية “قصص تعلب مع العالم” والصادرة عن دار ميريت عام 2011م، يستمر الفخراني في السباحة داخل عوالمه المتخيلة، وكأنه اختار العنوان عن عمد، وأنه أراد التأكيد على أن اللعب مكون أساس من مكونات العالم، فالكاتب يلعب مع القارئ، والقصص تلعب مع العالم، ولا يكاد يخلو أي نشاط من اللعب. لعب صاف يخلو من أي حدود أو قيود، فاللعب حق مكفول للجميع، يبعث الحياة في كل العناصر والمشاعر، وينشر الدفء حول الجميع.
في رواية “مزاج حر” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2018م، يستمر الفخراني في لعبته المفضلة، بالتلاعب والمزج المستمر بين الواقع والخيال، ويستعين بأسلوب حكي أقرب لحكايات ألف ليلة وليلة الشهيرة، حيث ينتقل بين العوالم المختلفة، ويتقابل مع شخصيات تاريخية من أزمنة متعددة، وكأنه يصحب القارىء في تجوال مستمر، وتحليق دائم، بلا أي قيود فيزيائية، فلا فارق بين الواقع والحلم، مركزا على التفاصيل الإنسانية والجوانب الخفية في نفوس تلك الشخصيات التي اشتهرت تاريخيا بتفاصيل أخرى، بغرض التعرف على زوايا أخرى للعالم، برؤية تصالحية معه، قد تظل تعبيرا مثاليا جامحا في عالم ليس مثاليا على الإطلاق، وكأن الفخراني في تلك الرواية حقق حلمه بالتجوال حوال العالم والانتقال عبر الأزمنة.
وفي روايته “أراك في الجنة” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2020م، يواصل الفخراني طرح أسئلته حول مصير الإنسانية، عبر استخدام تيمة الرحلة التي استخدمها من قبل، ويخلق عالما متخيلا بالكامل، لم يُكتب من قبل، يوجد جميع تفاصيله وشخوصه، مستخدماً أدوات الطبيعة الأولى والبسيطة، من موسيقى وطيور وشجر وألوان وماء وتراب، ومقتبسا من الميثولوجيا الدينية، فيم يخص وصف الجنة والنار، يضيف تصوره الشخصي عنهما، بعد أن يعيد تشكيلهما، ويمنحهما بعدا إنسانيا محملا بكافة الأسئلة الوجودية التي تشغل بال أبطاله، والتي بالتبعية، تشغل باله شخصيا بأسلوب يتميز به شخصيا، وهو أسلوب فانتازيا الأسئلة الوجودية.
أما في أحدث أعماله الأدبية “لا تمت قبل أن تحب” والصادرة في فبراير 2021م عن دار العين للنشر، تتحدث عن عالم له إيقاعه الخاص، وشخصيات كأنها من حلم واقعي، تعيش ألمها، وفرحها كل على طريقته، وترسم أسلوبها الإنساني بخط رفيع، تقع بسهولة في حب العالم كل يوم، والعكس صحيح.
كما اعتدنا من الفخراني، تدور الرواية عن عدة عوالم، وشخصيات مختلفة وغير اعتيادية، أطفال متوحدين، صمّ وبكم يتكلمون أجمل لغة رومانسية في العالم، لغة الإشارة، منتحرين صغار السن، عازفة ساكسفون لها أزرق يخصها، ومصوِر فوتوغرافي شاب يتجول في العالم بكاميرته، وطبيب يجري عملياته الجراحية وهو يستمع إلى موسيقى بيانو، ويمشى حافيا ليلا في ردهات المستشفى ليطمئن مرضاه، وصور فوتوغرافية أثرت في العالم نراها بعين جديدة ورؤية مختلفة، نقرأ عن فتاة لها ضحكة حلوة تحفظ لماء البحر ملوحته، وفتاة تنتظر أن تصل إلى اليوم الأول من أربعين عمرها كي تنجو من مرض وراثي.
محمد الفخراني كاتب من طراز فريد بلا شك، يكتب من أجل أن يجعل العالم مكانا أفضل، قد لا يجد اليوتوبيا التي يحلم بها على أرض الواقع، إلا أن كتابته الحالمة مكنته من خلق ذلك العالم وحجز مكان مميز على قمته، مما يزيد من رغبته أكثر وأكثر على الاستمرار في محاولة جعل العالم أفضل وأفضل للجميع على السواء، دون أن يخل بمشاهد الحياة الطبيعية أو شخصياتها الطبيعية. يكتب لاستمتاعه بالكتابة في حد ذاتها، يؤمن أن الكتابة هي أفضل وسيلة تعَبِّر بشكل صحيح عَمّا نشعر به، تساعدنا على فهم مشاعر غيرنا فِعْلًا في كل مرة، وتمحي سوء الفَهْم الذي قد يحدث عند محاولة التعبير بوسائل أخرى، أو سوء تعبيرنا عن أنفسنا، وسوء فهْمنا لغيرنا ولأنفسنا، وليس هناك دافعا أفضل من ذلك في رأيي لتشجيع الكاتب على إمساك القلم والشروع في فعل محبب وممتع للغاية مثل الكتابة.