يقول تشارلز ج. فومبرون Charles J. Fombrun وسيز ب. م. فان ريل Cees B. M. Van Riel في كتاب “المال والشهرة: كيف تبني الشركات الناجحة سمعة رابحة”، النسخة العربية من إصدار الدار العربية للعلوم ببيروت ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم سنة 2009، من ترجمة جنيفر عطية للأصل الإنجليزي Fame and Fortune: How Successful Companies Build Winning Reputations ، يقول المؤلفان: “يملك الإعلام تأثيراً قوياً في المسائل التي نعيرها انتباهنا. قام الأستاذان ماكس ماك كومبز ودون شاو في العام 1972 بدراسة مشهورة أجريا خلالها مقابلات مع 100 مصوّت متردد في نورث كارولينا وطلبا منهم تحديد أكثر خمس مسائل تثير قلقهم في ما يتعلق بانتخابات الرئاسة القادمة. ثم نظر الباحثان في ما نقلته وسيلة الإعلام الرئيسية تشابل هيل (المطبوعة والمُذاعة)، ووجدا ترابطاً يكاد أن يكون كاملاً بين تغطية الإعلام ومصادر القلق التي عبّر عنها المصوّتون.
تلت دراستهما سلسلة أبحاث تؤكد دور الإعلام في إعداد جدول الأعمال؛ أي أن الإعلام يملك تأثيراً قوياً في قولبة الرأي العام حول الأحداث وأهميتها؛ وأن عدد المرات التي تُكرر الأخبار القصة يؤثر في إدراك الناس لأهمية الحدث، بغض النظر عمّا يقال حول الموضوع”.
أثر الإعلام عظيم كما يعلم الجميع، ولم يعد الناس بالضرورة بحاجة إلى دراسة من أي قبيل لإثبات ذلك الأثر الساحق إلا ما كان على سبيل الإيغال في دقائق البحث والتمحيص. لكن الدراسات ذات الصلة عادة ما تكشف من عمق تأثير الإعلام على الجماهير ما يتجاوز التوقعات برغم إدراك الناس بصفة عامة لسطوة تأثير الوسائل الإعلامية على اختلافها قديماً وحديثاً.
يواصل المؤلفان إلى حيث نقع على أعمق ما في سياق هذا الاقتطاف: “في الوقت عينه، الإعلام ليس سوى أشخاص عاديين يتأثرون بالعالم الذي يحيط بهم: الصحافيون يختارون المواضيع التي يغطونها والمحررون يستبقون ما سوف يهم القرّاء. يعتمد الناشرون والمنتجون كثيراً على الأموال التي يدرّها الإعلان وبالتالي، إن شاؤوا أو أبوا، يتأثرون بالشركات التي يعرضون دعاياتها؛ حتى ولو لم تُبذل جهود واضحة من قبل الناشرين الساعين إلى إرضاء الإعلانيين أو من قبل الإعلانيين الساعين إلى التأثير في محتوى الإعلام. تفادياً لأي تأثير مفرط، يبني معظم الناشرون المحترمون جداراً بين الأخبار والإعلان. بيد أن الجدار القائم بين التحرير والتسويق ينهار أحياناً بسبب الضغط الذي يتعرّض له نتيجة للمنافسة والحاجة إلى استقطاب العائدات”.
ما أشرنا إلى كونه أعمق ما في الاقتطاف ليس ما ورد عن العلاقة المتبادلة والمتشابكة بين الإعلام والشركات الداعمة (والضاغطة بقوة من ثم)، فهذه أيضاً معروفة لدى الجميع تقريباً، وإنما هو ما تمثله العبارة: “الإعلام ليس سوى أشخاص عاديين يتأثرون بالعالم الذي يحيط بهم”، فتأثّر الإعلام بالعالم من حوله ليس عابراً أو ضعيفاً وإنما يكاد يكون في نفس قوة تأثيره هو على العالم الذي يشكّله.
يعرض السياق الذي وردت عنه الاقتطافات السابقة من كتاب “المال والشهرة” إلى تأثير الإعلام في ترسيخ “سمعة” المؤسسات، وإلى ما تقوم به الأخيرة من “دعم” للإعلام من أجل ترسيخه للصورة التي تريدها عن نفسها، لينعكس كل ذلك أموالاً على الطرفين: الإعلام والمؤسسات، ومن ثمّ ترسيخاً للاثنين على صعيد الوجود المادي والمعنوي في وجدان الجماهير من المتابعين.
بالنسبة للشهرة مجردة، أي بعيداً عن المراد بـ”السمعة” وتبعاتها المادية “والمالية تحديداً”، فإن أثر الإعلام لا يختلف – سواء من حيث القوة أو تبادل التأثير – سوى في كونه لا يعتمد على الدوافع المالية/ المادية بشكل أساس. أثر الإعلام ساحق في تأسيس وترسيخ شهرة أي فرد أو كيان يقدّم منتجاً فكرياً أو معنوياً من أي قبيل، ولكن ما يجدر الوقوف عنده بانتباه عميق على هذا الصعيد هو ما أشار إليه فومبرون وفان ريل بخصوص الإعلام بوصفه أشخاصاً عاديين يتأثرون بالعالم الذي يحيط بهم.
وإذا تجاوزنا الجهات المؤسسية – من كل قبيل – التي تدفع إلى سماوات الشهرة بأفراد لغايات أيدولوجية أو ذرائعية من هذا القبيل وذاك، فإن الإعلاميين كثيراً ما يقذفون بصورة فردية مؤسسة ما أو فرداً بعينه إلى الشهرة لدوافع شخصية بحتة تتراوح بين الانحياز الفطري/ التلقائي – في التقييم والقبول – وبين الأغراض المسبّقة انطلاقاً من خلفيات نفسية معقدة قد يكون بعضها غائباً عن الإعلامي المتحمس نفسه. المهم على كل حال، أن الإعلام يغدو متأثراً في كثير من الأحيان بدرجة لا تقلّ عن كونه مؤثراً، فيغدو هو أسيراً للنجم الذي يروّج له بصرف النظر عن طبيعة المجال الذي يقدّم من خلاله ذلك النجم بضاعته الفكرية أو المعنوية.
والحال كتلك، يبدو الإعلام كما لو كان السلطة التي في يدها مفاتيح التتويج للمشاهير والضحية التي تقع في أسر من تروّج لهم من المشاهير في الوقت نفسه، دون أن تدرك في الغالب أنها ضحية. وعندما يبلغ بعض المشاهير من النجومية ذروتها فإنهم يصبحون في موقع تغذية وسائل الإعلام التي يطلون من خلالها بمزيد من الشهرة بحيث يبدو اتجاه الإفادة في الشهرة كما لو أنه انعكس، ولكن المشاهير بالغي الفطنة من النجوم يدركون أن من الحكمة ألا يستبدّ بهم الغرور عند هذه الذروة، فالإفادة بين الإعلام والمشاهير هي دوماً طريق ذو اتجاهين حتى إذا أغرت كثافة حركة المرور في أحد الاتجاهين بغير ذلك في بعض مراحل العلاقة لأيٍّ من الطرفين.
للتواصل مع الكاتب: