عشت في ليلة لا تُنسى في “ليلة من ألف ليلة وليلة” على المسرح القومي، كنت قد عشت ذات الليلة قبل أكثر من عشرين عاما على مسرح الجمهورية، المشترك هو يحيي الفخراني بطل العرضين والشاعر الذي ينضح إبداعه بعصارة الروح المصرية بيرم التونسي والملحن العبقري المظلوم والذي ألمح روحه منتعشة وهي تُطل علينا من العالم الأخر أحمد صدقي.
ما كل هذا الوهج والسحر والألق الذي عايشته على المسرح وقبل ذلك الانضباط الذي يعني أن التاسعة والنصف موعد فتح الستار لا تعني سوى التاسعة و30 دقيقة بالتمام والكمال لا ثانية متأخرة ولا أخري متقدمة.
قبل أن يبدأ العرض وداخل المسرح وأظنها مقصودة استمعت إلى موسيقي لعدد من الأغنيات قسط وافر منها تلحين احمد صدقي، وكأنه تمهيد غير مباشر لتذوق ألحان هذا المبدع الكبير، العرض سبق تقديمه عام 1931 بموسيقي للمطرب سيد مصطفي الذي كان تلميذ سيد درويش في مطلع القرن الماضي، ولكن منذ الخمسينيات والعروض الثلاثة التالية أعاد صدقي تلحينها الذي برع كعادته في استخدام الإيقاعات الشرقية والبدوية فلقد كان مولعا بدراسة الإيقاعات بكل تنويعاتها وله إضافات خاصة به، ولهذا كان ينتقل بسلاسة من خلالها ليمنح الروح الشعبية والبدوية وترتدي دائما جملته اللحنية مزاج ساخر يتوافق مع حالة المسرحية ،كنت مبهورا بهذا الموسيقي الذي كان أيضا نحاتا وكثيرا ما حصل على جوائز، وأتصور أن روح النحات أضفت على كل ألحانه حتى خارج هذا العرض، نوع من التجسيد وكأنك تُمسكها بيديك، وهكذا مثلا قدم عشرات من الأوبريتات الإذاعية الشهيرة مثل “عوف الأصيل”..
الموسيقار الشاب يحيي الموجي هو الذي تولي التوزيع والتسجيل لتتوافق الألحان مع روح العصر، المخرج محسن حلمي يبدع في كلمات بيرم التونسي الذي كتب اغنياته وطرزه أيضا بحوار درامي ينضح موسيقى وتتعجب من مفرداته التي التقطها من عمق البيئة المصرية بكل هذه السلاسة، كيف نعيش كل هذه الأصالة والإبداع لكي تنصهر كل المفردات على خشبة المسرح انه ولاشك المخرج المايسترو محسن حلمي الذي قاد باستاذية كل عناصر المسرح والتشكيل من ملابس نعيمة العجمي وديكور محمد الغرباوي والاستعراضات مجدي صابر.
الفن له قانون خاص وهذه المسرحية لمن يبحثون عن الهدف والمضمون والرسالة وتلك الأصوات الزاعقة التي ملأت الدنيا هذه الأيام بضراوة من المفترض أنها تقف على الجانب الأخرمن البطل فهو سارق وقاتل وخائن ورغم ذلك يرسله محمد محسن الذي لعب دور الخليفة في نهاية المسرحية إلى الحج ليغفر له الله كل ذنوبه، انتصرت القيمة الجمالية على دعاة تطبيق المعايير الأخلاقية المباشرة على العمل الفني، انتصرت قيم الجمالية على دعاة مدرسة تعقيم وتهذيب واخصاء الفن.
كنا لا نتعاطف فقط مع بطل العرض يحيي الفخراني ولكننا نتمثله عندما يضرب ويطعن كنا نطعن ونضرب معه وعندما تمتد يده لتسرق الملابس من الدكاكين كانت أيادينا هي التى تسرق، وعندما يقدم يده لرئيس الحرس طالبا منه أن يقطعها جزاء على فعل السرقة طبقا للشرع كنا جميعا نتمنى في تلك اللحظة ألا تُطبق الشريعة، وعندما قُتل كانت أيادينا هى التي تمسك بالخنجر انها القدرة الاستثنائية على التواصل الوجداني بين الفخراني والجمهور، في العرض السابق قبل عشرين عامًا كان الفخراني لم يصل للخمسين وهو المرحلة العمرية التي يعيشها اللص القاتل ،الأن اقترب يحيي من السبعين ورغم ذلك فإنه بإحساسه ظل هو القادر على إقناعنا.
عدد من الموهبين يقفون مع الفخراني لطفي لبيب القناص الذي يجيد التنشين على لمحة خاصة في الشخصية فيبهرنا، والممثلة الموهوبة التي تشع حضورًا هبة مجدي، وضياء عبد الخالق بوجهه الصارم القادر في نفس الوقت على التلون فهو يمنح الجدية في لحظة ونصدقه شريرا وبمنهي الجدية أيضا في لحظة أخرى يثير شهيتك للضحك، ثم الرائعة عاشقة المسرح سلمى غريب وكان اختيارًا صائبًا للمطرب محمد محسن الذي ينتظره الكثير.
“ليلة من ألف ليلة” قدمت درسًا بليغًا في كيف نُعلى من قيم الجمال في وقت نرى فيه الكثيرون وهم يرتدون ثوب كهنوت الواعظ أمام الكاميرا وعلى خشبة المسرح!!
نقلًا عن جريدة “التحرير”