جزيرة غمام
“الشقا أهون م الصدقة”
جملة عابرة قالتها شخصية ظهرت في مشهدين لا غير، في إحدى حلقات مسلسل “جزيرة غمام”، الشخصية لسيدة تشكو لحاكم الجزيرة الحاج عجمي ضيق ذات الحال بعد وفاة زوجها، الأرملة لم تذهب لطلب المعونة المادية، بل أنها رفضتها حين عرضها عليها العجمي، فهي قد ذهبت تشكو إليه صيادي الجزيرة وكبارها الذين لم يعجبهم أن تنزل امرأة البحر للصيد، مستخدمةً قارب زوجها الذي رحل مؤخراً، فالمرأة لم تسمح لها كرامتها وعزة نفسها أن تتسول المعونة من أحد وفي ذمتها بناتها الأربعة فقررت أن تذهب بنفسها للصيد واستطاعت ذلك بالفعل، لكن التقاليد المتعارف عليها في الجزيرة لم تتقبل ذلك.
لم تضع الأرملة “يدها على خدها” ولم تبك؛ بل قررت الذهاب لحاكم الجزيرة ترفع إليه الأمر وتطالب بحقها في العمل جنبا إلى جنب مع الصيادين الرجال، والحاكم أخبرها بأن من حقها طلب المعونة لكنها رفضت قائلةً بتلقائية تعكس عزة نفس أهل الصعيد: “الشقا أهون م الصدقة”.
قد يبدو المشهد عابرا في خضم نسيج الأحداث الذي يجعل الحاكم الباحث عن عروس يطلب يد ابنتها للزواج، لكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك، هي في رأيي مقصود تماما من المؤلف السيناريست المبدع عبد الرحيم كمال، فصورة المرأة في مسلسل جزيرة غمام، يتفق تماما مع رسم الشخصية بصورة تجعل الثقة في النفس والإيمان بالمطالبة بالحق شيئاً متعمداً تماماً.
في مشهد تالي يذهب الحاكم لبيت الأرملة الفقيرة ليؤكد على طلبه يد ابنتها للزواج، شارحاً لها بأنه يعرف الأصول وأنه يجب أن يطلب يد الفتاة في بيتها.
مشهد آخر يؤكد على احترام المرأة في المسلسل، الذي يراعي كاتبه إظهار صورة عن الصعيد مختلفة عن التي اعتدنا عليها في أغلب الأعمال الدرامية، فبرغم أن جزيرة غمام الواقعة على البحر الأخمر في أقصى جنوب مصر، تمتلئ بالصراعات والعقد الدرامية؛ إلا إن قيم احترام العدالة والإصرار على تطبيق العدل باعتباره أساس العدل، بدا واضحاً منذ الحلقة الأولى وحتى السادسة عشر حين تم القصاص الكامل للفتاة المغدورة، برغم العقاب الإلهي الواضحة رسالته بأن كل ساقٍ سيُسقى مما سقى؛ إلا أن إصرار الحاكم على تطبيق العدل برغم تعارض ذلك مع مصالح ورغبات أقرب المقربين له، يعكس صورة عن الصعيد حتى في ذلك الزمن البعيد -زمن وقوع أحداث المسلسل المُفترضة- كمجتمع يحق للجميع فيه الحصول على حقوقهم بغض النظر عن معايير الغنى والقوة، ويحق لامرأة مسنة كفيفة فقيرة أن تقتص لحفيدتها المغدورة، ليس لأن الحاكم أصر وحسب، ولا لأن أهل الجزيرة على فقرهم وما يبدو عليهم من تسليم ظاهر لا يتهاونون “ساعة الجد”؛ بل أيضاً لأن المرأة المسنة الكفيفة الفقيرة والوحيدة/مليحة أصرت على معرفة الحقيقة والقصاص، وحملت الحاكم مسئولية ذلك وداومت على المطالبة بحقها، بل أنها استطاعت على ضعفها وقلة حيلتها في الظاهر أن تمسك بأول الخيط!
المسلسل أظهر أيضاً هلالة، المرأة التاجرة القوية صاحبة الكلمة المسموعة في السوق وبين أهل الجزيرة، زوجة الحاج عجمي في السر حتى لا يجرح مشاعر ابنته، وحبيبته التي لا يقول عنها إلا حبيبتي وزوجتي وصاحبة سري، مكانة يكنها لها زوجها الذي يحترمها ويحترم رغباتها ولا يفرض عليها رأيه، حتى في موقف صعب كاكتشاف تورط ابنها في الجريمة، وحين طلبت الطلاق منه على حبها له بعد أن سمحت له بالزواج مجدداً كي ينجب الولد، لكنها صارحته بأنها اكتشفت بأنها لم تطق الأمر حين تم، وعليهما الانفصال على أن تظل علاقتهما طيبة، وهو برغم انكسار قلبه لطلبها رضخ لما تريد حتى يريح قلبها.
كلام الحاكم أو كبير الجزيرة عن ابنته، يعكس احتراماً كبيراً لها، ولمكانتها في قلبه، وقد يكون ذلك طبيعياً لو أن الأحداث تدور في هذا العصر وفي مدينة كالقاهرة، لكن كونها في ذلك الزمن وفي الصعيد، هو أمر لم تعتده الدراما، التي تُظهر المرأة الصعيدية قليلة الحيلة إلا لو كانت “الكبيرة” أو “وتد العائلة”، وهو أمر يُحسب للسيناريست الصعيدي عبد الرحيم كمال، إلى جانب أمور أُخرى متعددة في هذا العمل الرائع.
وفي الإطار نفسه أظهر المسلسل البطلة الغائبة الحاضرة سندس، كفتاة يحق لها الحب، فلم يدنها المسلسل، ولم يرد على لسان أي من أبطال العمل إدانة لها، بل أن من خدعوها وسلبوها حياتها عاقبتهم الأحداث بما يليق بالجرم، ويأتي التأكيد على احترام حقها في القصاص لروحها على لسان الحاكم مراراً، بأن “كل بنت في الجزيرة هي بنتي”، خط افتقدناه كثيراً في الكتابة عن المرأة وعن نساء الصعيد، لكن “جزيرة غمام” أعاده إلينا بجعله حضور المرأة حضوراً كريماً مكرماً بلا مبالغة وبنسج ناعم لمفاهيم مهمة في الحوار والأحداث.