لم يدخل هشام قاسم نقابة الصحفيين المصريين، لم ينتمي يوما لمؤسسة قومية كباقي أبناء جيله من العاملين في هذه المهنة، لكنه يظل الإسم الأهم في هذه الصناعة التي بلغت معاناة أبنائها في المرحلة الحالية مستوى غير مسبوق على كافة الأصعدة، سياسيا وإقتصاديا وبالطبع مهنيا، هذه المعاناة شجعتنا على الذهاب إلى الخبير الذي تستعين به كبريات الصحف المصرية والعربية لحل مشاكلها، باعتباره “طبيب الحالات الصحفية الحرجة” الذي دشن جريدة المصري اليوم صاحبة الإسم الرائد في سوق الصحافة اليومية الخاصة، والذي لازال يحلم بإطلاق جريدة يومية جديدة تتراجع فيها سطوة صاحب رأس المال، وتظل اليد العليا فيها للخبر والتحليل بعيداً عن أي مصالح سياسية أو أهواء شخصية، مع هشام قاسم في مقر جريدته المنتظرة “الجمهورية الجديدة” سألناه تشخصيا دقيقا للحالة الصحفية الحالية وتوقعاته لم قد يحدث في المستقبل القريب .
هناك سوء فهم فيما يتعلق بمستقبل الصحف المطبوعة في مصر، الواقع يؤكد أن سوق الصحف المطبوعة بات أكثر انتعاشا في دول أسيوية عدة منها الصين والهند، لأن مكافحة الأمية تسير هنا على ما يرام، وكل من يتعلمون القراءة يلجأون للصحف، إذن لا توجد قاعدة نهائية تقضى بزوال المطبوع من العالم، الفكرة دائما فيما تحمله الصفحات المطبوعة من مضمون، مثلا عندما تخرج الأهرام صباح السبت 12 فبراير 2011، بمانشيت ” الشعب أسقط النظام”، نعم هذا مانشيت رمزي إلى حد كبير، لكن ليس به معلومة جديدة، فنحن نعرف أن الشعب أسقط النظام منذ خرج عمر سليمان لالقاء بيان التنحي، بالتالي يجب أن تمنحني أي جريدة ما يجعلني أضع يدي في جيبي وأخرج الثمن وأعطيه لبائع الصحف وأنا راضي عن ذلك، لنتخيل لو كان عنوان الأهرام يوم 12 فبراير هو “مخاوف من تداعيات أمنية بعد خلع مبارك” بالتأكيد جاذبية العنوان الخبرية كانت ستختلف، مثال أخر، في سنوات المصري اليوم الأولى، وعندما كانت الشائعات تنطلق حول تغيير وزاري وشيك، كنت أذهب إلى أي محفل عام وتحاصرني الأسئلة باعتباري من الجريدة الخاصة البارزة في ذلك الوقت ولدي معلومات، الآن ومع مواقع التواصل الإجتماعي لم يعد هناك خبر عاجل وخبر غير عاجل، الكل منشور ومتاح، إذن دور الجريدة المطبوعة أن تمنحني في اليوم التالي ما هو جديد ومختلف وتحليلي لا خبري، ساعتها سيعود القارئ للشراء ولن يتكلم أحد عن نهاية عهد الصحف المطبوعة في مصر.
الصحافة في مصر لم تطور نفسها بعكس الصحافة في العالم، فجرائد مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست بدأت تتيح بعض المقالات مجانا بشرط أن تدفع إذا رغبت في قراءة المزيد ، أو تنشر تفاصيل بسيطة من القصة الخبرية لترغيبك في الدفع مقابل قراءة الجريدة أون لاين، واهتموا أكثر بما بعد الخبر.. ولكن هنا حالنا هو “نايمين في الخط” فتجد مثلًا كل الجرائد تقريبًا محتواه قرأته في اليوم السابق، خصوصا وأن القارئ الذي لديه القدرة الشرائية للاشتراك في الإنترنت هو نفسه القارئ الذي لديه القدرة على شراء الجريدة، وبذلك الصحف تحرق نفسها وتبرر ذلك نتيجة لعدم فهم التوجهات الدولية وما يجري في العالم بعملية صناعة الصحف، وتقول أن هناك عزوف عن القراءة، وهذا حقيقة ولكن بسبب المحتوى الضعيف.
مثال على ذلك، خبر على كل وكالات الأنباء بعنوان “بوش يعفو عن ليبيا” وفي العدد التالي من الواشطن بوست جاء العنوان “قرار اتُخذ منفردًا” ويحكي تفاصيل اتخاذ القرار نفسه والمشادات التي جرت في البيت الأبيض، لذلك خلقت الجريدة مساحة لنفسها بعد أن تم قتل القرار بحثًا في الصحف والتلفزيون، وقدمت مضمون مختلف مرتبط بنفس القرار ولكن من زوايا أخرى على نفس الدرجة من الأهمية.
مثال آخر من صحيفة النيويورك تايمز قدمت موضوع من أجمل المواضيع التي تمت عن الأزمة الاقتصادية في بداية حكم أوباما عام 2008، عن الشباب الذين يدرسون إقتصاد، وأن هؤلاء الشباب أدركوا أنهم حتى لن يستطيعوا العمل في “ستار بكس”، وذلك بعد أن كان كل واحد منهم يرسم حياته باختيار سيارته وشقته المفضلة، كانت “ستار بكس” تقوم بتسريح العاملين بها، هذه هي مظاهر الاختلاف التي تميزت بها الصحف عن طريق هذه اللقطات المختلفة.
المصري اليوم تأسست برأس مال 16 مليون جنيه، وهي أول جريدة تنطلق بعد دراسة جدوى وافية ودراسة تسويقية غير مسبوقة، البداية كانت في مرحلة تولى الصحفي الراحل مجدي مهنا التجربة، لكنني انسحبت بسبب أن المضمون كان “خلطة” من الصحف الأسبوعية والمعارضة وقتها، ولم يكن يتميز عن غيره كثيرا، ثم عدت بطلب من المؤسسين قبل الصدور الرسمي للجريدة في 2004، مطبقا قاعدة تقديم محتوى خبري ومعلوماتي فقط للقراء، وهو ما دفع أنس الفقي أخر وزير إعلام في عهد مبارك للقول بأن الموافقة على صدور المصري اليوم كانت “غلطة” ، والسبب أنهم ظنوا أن الجريدة ستكون مجرد صحيفة معارضة يوميا تعتمد على العناوين الزاعقة والمقالات الإيديولوجية وحسب، لكن المفاجأة كانت في انحياز المصري اليوم للمعلومة والخبر وإبراز إيجابيات وسلبيات الحكومة حسب تفاصيل كل قضية .
لا أستطيع توجيه أي لوم لأكمل قرطام مالك الجريدة، فهو غير قادر على تحمل الخسائر التي وصلت إلى 55 مليون جنيه حسب تصريحاته، وفكرة التركيز مع جريدة أسبوعية هي “الأهم” ومواقع إلكترونية عن نفس المؤسسة قد تكون أكثر جدوى بالنسبة له، لكن مع كافة احترامي لقرطام وللسيدة إنجي الحداد، فكلاهما بعيد عن إدارة الصحف، لا توجد أي دراسات جدوى حقيقية، تتعلق بطبيعة القارئ وبمدى قدرة الصحيفة على الوصول له وهل تم حساب المكسب والخسارة بدقة قبل الدخول في المشروع، حتى فيما يتعلق بأسم المشروع نفسه .
يوسفني القول أن التحرير قد تكون ضربة البداية لقرارات إغلاق صحف جديدة، طالما أن الكل يريد أن يصبح صحفي أو كاتب أو رئيس تحرير، لكن لا دراسة حقيقية لمهام الناشر والمدير المالي والإداري وكيف يجب أن يكون صوته مسموعا في أي تجربة لتعيش لسنوات طويلة، جريدة الشروق أيضا بدأت بدون دراسة حقيقية، طبع 100 ألف نسخة في العدد الأول وهذا رقم كبير جدا، تكلفة الحملة الإعلانية للجريدة وصلت لثلاثة ملايين جنيه، تلى ذلك سلسلة من التغييرات المتخبطة، ما بين الاهتمام بالسياسة لفترة، ثم زيادة صفحات متابعة الجريمة، وما إلى ذلك من أمور تجعل القارئ غير قادر على الإخلاص للمطبوعة يوميا، ما يجعل التراجع وضعف التوزيع نتيجة لا تحتاج لأي دهشة أو استغراب .
مع كل تقديري لنجيب ساويرس لكن هو أخطأ الطريق في الإعلام، كان عليه الإكتفاء بمساندة الإعلام دون أن يفرض صوته ورأيه بشكل دائم على المشروعات الإعلامية التي يمولها، ومهما حاول أن ينفي فهو يتدخل في الإعلام، ويسعى دائما لأن يكون صاحب دور سياسي، وهناك أشياء جيدة يقوم بها، ولكنه يحتاج أن يحد من نقل تصوراته وفكره من خلال الإعلام المملوك له، ويخلق إعلام يعكس صوت البلد أكثر مما يعكس صوته هو، إنما هو تجربته في الإعلام فشلت، وساويرس أنفق على عدة صحف من قبل لكن كلها لم تصمد، بخصوص فيتو مثلا، أشك لو لم يكن هناك موقع “إلكتروني” كان مستحيل أن تستمر كجريدة مطبوعة لمحدودية الإنتشار، ونفس الشئ تكرر مع القنوات التليفزيونية، ربما لا تكون لدى ساويرس أزمة في انفاق الملايين على الإعلام دون تحقيق أرباح، لكن يجب أن يدرك أن هذا الانفاق حتى لو زاد لن يعطيه حصة أكبر في تشكيل الرأي العام، وتعجبت جدا من التغيير الذي قام به في بروموميديا، حيث حاول السيطرة على سوق الإعلان بالكامل، فاستبعد العاقل المهني أمجد موسى صبري وأعطى القيادة المطلقة لإيهاب طلعت الذي من المفترض أن ساويرس على علم بتاريخه في السوق والمشكلات المتعددة التي تسبب فيها ولاتزال تطارده حتى اليوم .