رباب طلعت
راجعين يا هوى
أسامة أنور عكاشة، اسم حفر لنفسه مكانة في قلوب المشاهدين العرب على مدار سنوات عمره التي قضاها في الكتابة، ونجح خلالها في الوصول إلى كل منزل مصري وعربي، بنبشه في عمق الشخصية المصرية بتغيراتها التاريخية والاجتماعية والثقافية، مما جعله يتربع على عرش الدراما ليس فقط في حياته بل بعد مماته.
ومع التأثير الكبير لدراما أسامة أنور عكاشة، والممتدة إلى عصر السوشيال ميديا، التي لم يعاصرها، ولم يكن ليتخيل أن يبقى حيًا بأعماله عليها، عاد صدى اسمه من جديد يعلو ويشدو سيمفونية جديدة للكاتب الراحل باسم “راجعين يا هوى”، وكأن الاسم يصف عودة عميد الدراما العربية للشاشة الصغيرة، ويصف حال المشاهدين الذين ترقبوا عرض العمل بخوف وقلق من ألا تنجح دراما “عكاشة” في عام 2022، أو لا تنجح معالجة محمد سليمان عبد المالك لها بما يتناسب مع العصر، فبات شعورهم بعد عرض ثلثي العمل يعبر عنه اسمه “راجعين يا هوى”.. راجعين للحنين لكتابات “عكاشة” القادرة على النجاح في أي عصر وحين، والدليل هو نجاح تجربة تقديم “راجعين يا هوى” في 2022، ولذلك أسباب كثيرة.
لعل أبرز ما يميز دراما أسامة أنور عكاشة، ويجعلها دائمًا في صدارة أي منافسة هو نجاحه في تسليط الضوء على الإنسان بكل ما يحمله من مشاعر مختلفة (حب، صداقة، خوف، تمرد، إخلاص، طيبة، غيرة، كره….) وغيرها مما يشكل وجدانه، بصدق بالغ، فنجد في “راجعين يا هوى”، صراعات الحب بمختلف أشكالها (فريدة التي لا تستطيع تجاوز حبها لبليغ، وماجي التي تتعامل باتزان مع حب الماضي، وبليغ وعمه الذان يهربان من الحب والارتباط، وجارة بليغ التي فنت حياتها في حب عمه ولم تتزوج من أجله، وعزة التي تحب زوجها المنافق لدرجة الانبهار به، وحب طارق وولاء الصعب، وحب الأم لابنها والابن لأمه وغيرها) ونجد الإخلاص في علاقات الصداقة، كما الغيرة والكره أيضًا.
والأمر لا يقتصر على المشاعر فقط، بل تكوين الإنسان نفسه بثقافته، ومعتقداته، وصراعاته الداخلية، فنجد أفكار “عم جابر” المثقف الفيلسوف تعبر عنه في جمل تشبهه إلى حد كبير، ونجد طارق الذي لا يفشل في معرفة من هو وما يريد، وبليغ نفسه الذي يريد اكتشاف نفسه، وغيرهم.
وبجانب ذلك، يبرز “عكاشة” في شخصياته الخير والشر معًا، وهو أساس خلق الإنسان، فلا يوجد شر مطلق أو خير مطلق، فـ”بليغ” وإن ظهر كرجل نبيل ووسيم و”جان”، إلا أن “ماجي” وصفته بلغة العصر بـ”التوكسيك” أي أنه شخص ضار وسام في حياة “فريدة” أو أي امرأة يعرفها، وقد برزت صفاته السيئة بجانب الحسنة، ومع أشرار العمل كذلك، فـ”يسرية” المتسلطة صاحبة الصوت العالي “حقانية” لم ترض بما فعله ابنها في زوجته وتحاول إنقاذ علاقتهما، بالإضافة إلى أنها أم جيدة وحماة غير متسلطة، وكذلك “شريفة هانم”، فعلى الرغم من أنها ليست أم جيدة لابنتها إلى أنها “ست ما تطلعش منها العيبة” كما وصفها “جابر”.
والإنسان في دراما عكاشة هو كل الإنسان، فنجد الغني والفقير، المتعلم والمثقف ودون ذلك، الناجح والفاشل، العاقل والمجنون، فيتناول “عكاشة” في أعماله كل أنواع البشر، لا تدور قصصه في مجتمع واحد أو فئة واحدة، فعالمه يساع الجميع.
مع اهتمام عكاشة بتركيبة الإنسان والبعد الإنساني في أعماله، يظهر اهتمامه الأكبر بـ”البطل” والمقصود هنا ليس نجم العمل، إنما “بطل الحدوتة”، الذي يعيش طويلًا في وجدان المشاهدين، فلا أحد يستطيع ألا يقع في غرام “حسن النعماني” في “أرابيسك”، و”بشر عامر عبد الظاهر” في “زيزينيا”، و”العمدة سليمان غانم” في “ليالي الحلمية”، وحتى على مستوى الشخصيات النسائية فـ”فضة المعداوية” في “الراية البيضاء” حالة استثنائية لن تتكرر، وغيرهم الكثيرين، ويضاف إليهم هذا العام “بليغ أبو الهنا”، الشخصية التي قدمها خالد النبوي باقتدار، فأبطال عكاشة لهم طابع خاص، فهم مزيج نادر من الصفات الإنسانية التي يصنعها “عكاشة” بـ”حرفية”، و”مزاج”.
دائمًا ما يسلط عكاشة في أعماله الضوء على الشخصية المصرية الأصيلة، تلك التي مهما تغيرت الأزمنة راسخة ومتمسكة بسماتها المميزة مثل العلاقة المختلفة والوطيدة بين الجيران والأصدقاء، (سلوى محمد علي جارة بليغ، وأصدقائه) الحلاق أو الميكانيكي أو غيرهم من الحرفيين الذين تربطهم بصاحب التعليم العالي علاقة خاصة مبنية على الحب والتفاهم، (الحلاق اللي مراقب كل حاجة) والعلاقة بين الخادمة وسيدتها والتي هي أبعد عن صورة الأمر والنهي، بل هي العشرة والسر (خادمة يسرية).
تظهر ملامح الشخصية المصرية أيضًا في الأماكن والمأكولات التي تدور أحداث العمل فيها، فلابد من وجود مناطق القاهرة العتيقة مثل الحسين والجمالية والقلعة وعابدين وغيرها، (الجمالية، والإسكندرية معشوقة عكاشة) بالإضافة إلى المأكولات والمشروبات المصرية، فـ”بليغ” القادم من دول الغرب لا يظهر في حلقة دون أن تجمعه مائدة الطعام مع أحمد ويأكل (كشري مصري، مسقعة، فول وفلافل، وسكلانس، البلطي، والذرة المشوي، وغيرهم).
ومع ذلك الخط الهام في إبراز سمات الشخصية المصرية، لا يغفل “عكاشة” أبدًا عن تناول اختلاف الأجيال، لإظهار التباين والاختلافات الحاصلة في الشخصية المصرية على مر أزمنة مختلفة، فنجد في “راجعين يا هوى” ثلاثة أجيال مختلفة (الجد، والعم وزوجات الأخوة، والأولاد) وكلهم تجمعهم ملامح نفس الشخصية المصرية، وتفرقهم مستجدات العصر، فالجد لا يحب “الراب”، وهائم في بحر خياله مع أفلاطون والفلاسفة، بينما الحفيد طارق منبهر به ويفهمه، والعم لا يستطيع مجاراة طارق وولاء في مصطلحاتهم، وأماكن خروجاتهم، لكنه يتفهم طبيعة شخصياتهم، ويجلس الجميع معًا يتبادلون الحديث ليظهر التناغم بينهم رغم اختلاف الأجيال.
ومن سمات الشخصية المصرية المهتم بها “عكاشة” أيضًا هو أكثر ما يميز المجتمع المصري (الأسرة)، فقصص الكاتب دائمًا ما تدور حول الأسرة والعلاقات بها، سواء كانت صراعات كـ”راجعين يا هوى” مثل (الشهد والدموع، ليالي الحلمية) وغيرهم، أو محبة تولد بالقرب مثل “امرأة من زمن الحب”، ودائمًا ما يولد وسط الصراع محبة، فقبل (ولاء وطارق) كان (أحمد وناهد) في “الشهد والدموع، وغيرهم، من أبطال حكاياته.
في كتابات “عكاشة” القصة صاحبة البطولة المطلقة، فعلى الرغم من وجود “نجم” للقصة إلا أن شارة البطولة تذهب إلى القصة دائمًا، فلقد نجح الكاتب في خلق قصص تصنع أبطالًا، لا أبطالًا يكتب لهم القصص، مما جعل دراما أسامة أنور عكاشة مثالية، تشبه الواقع بناسه، ليست مفصلة على أحد، مما يجعل كل المشاركين في العمل أبطالًا، يترك كل منهم بصمته في الأحداث.