“الشهرة أنواع، وقد يطمح المبدع إلى إصابة نوع بعينه منها ويُـكتــَـب له نوع آخر، فيظل مشهوراً على ما لا يؤثره من الطرق وهو يفني عمره جرياً وراء ما جفاه من ضروب الشهرة. يشبه ذلك كاتباً ظلّ يمنِّي نفسه بلقب ناقد رصين والناس تحشره في زمرة الكُتَّاب الساخرين وتُغـدق عليه من أنماط الحفاوة ما يظنه هو هزلياً لا يرقى إلى طموحه الجادّ من الذيوع. ومقابل ذلك كاتبٌ يُلقي بظلاله التي يظنها خفيفة على جماهير تنوء أرواحُها بالحمل الثقيل ولا ترى بأساً باستقباله في مقامات أخرى لا يتكلّف خلالها حـَـمْلَهم على الابتسام”.
هكذا عرضنا لأنواع الشهرة في “تواضعوا معشر الكتّاب”، وذلك في غضون متابعة “صراع مع الشهرة” لا يسلم منه مبدع بطريقة أو بأخرى. وإذا كان التركيز في ذلك المقام على الكتابة بحسب طبيعة السياق، فإنه يمكن القول على وجه العموم بأن أنواع الشهرة ابتداءً تتعلق بمجال الشهرة، ثم بطبيعتها داخل المجال رجوعاً إلى تأثير المبدع والطريقة التي تحتفي عبرها الجماهير به (من حيث التوقير الجمّ أو الولع الزائد على سبيل المثال لطريقة الاحتفاء)، وأخيراً تَبرز درجةُ الشهرة بوصفها عاملاً مهماً على صعيد الشهرة لا يقلّ – بكثير من المقاييس – أهمية عن العاملَين الآخرَين اللذين يُعنيان بـ”النوع” مقابل “الكم” الذي يمثله العامل الأخير.
نوع الشهرة لا يشغل بالـ المبدع الطامح إليها بصورة مباشرة، فالأرجح أن المبدع يعمل بصورة تلقائية على مطاردة الشهرة على الطريقة التي يؤثرها بما يوافق طبعه، ولكن لا يسلم الأمر مع تعقيدات عوالم الشهرة من وقوع المبدع في الخطأ. وقد رأينا في المقام المقتطف عنه سابقاً أن “أهـوَن أنواع الخطأ في طلب الشهرة ما يقترفه المبدع داخل حدود مجاله من الإبداع على نحو ما أشرنا بأن يقصد وجهاً من أوجه الكتابة والناس تحتفي به في غيره من الوجوه، وأجلُّ الأخطاء في طلب الشهرة أن يقضي الواحد عمره مشهوراً – أو مؤهلاً للشهرة – في مجال وهو يطرق أبواب المجد في غيره من المجالات. ولعل المتنبـّي قد مات وفي نفسه شيء من الحُكْم، فهو – الذي كان بوسعه أن يحافظ على لقب شاعر العرب الأشهر لحوالي ألف عام – أفنى أجملَ قصائده في استجداء الأبيض والأسود من الملوك والأمراء من أجل أن يـُولُّوه أمر الناس هنا أو هناك، فقد أبت نفسه من الشهرة إلا ما أفضى إليه بعض أشكال المُلك من الحُكم غير قانع بصيته وهو الذي مـَـلَك الحِكمة من الشعراء”.
من المهم إذن أن يعرف المبدع المجال الذي يمكن من خلاله أن يصعد إلى سماوات الشهرة، والأغلب أن ذلك هو المجال الذي تكمن فيه موهبته العميقة لا ذلك الذي يخلب لبّه بالضرورة. لكن حتى مع إدراك المبدع لمكمن موهبته يظل التحدّي مطروحاً بقدر من المراوغة والمخاتلة لا تجب الاستهانة به، فالمتنبي لم يكن قد حقق شهرته فحسب وإنما كان مدركاً بدقة لمكامن عبقريته الشعرية حين كان يلهث على نحو صبياني – بل طفولي – ليدرك المجد على صعيد لم يَبدُ أنه كان مهيَّأً للسير فيه، دع عنك التحليق في سماواته.
وربما لم يكن المتنبي بالقدر الذي رميناه به من الصبيانية والطفولية في ملاحقة الشهرة. مَن ذا الذي يملك حق أن يمنع مبدعاً من الحلم بقنص الشهرة في أكثر من مجال؟ الأرجح أن المتنبي كان يرى نفسه جديراً بأن يكون والياً، ربما بدافع حب النفوذ أو شهوة المال أكثر من كونه مدفوعاً إلى ذلك بداعي تحقيق إنجازات استثنائية على صعيد الحكم تضمن له مكانة فريدة بين الملوك أو الولاة تسبغ عليه من سرابيل الشهرة ما أسبغه الشعر.
وإذا كان حلم الشهرة يلحّ بقوة على خيال كل مبدع في بداياته، بل يداعب خيال كل إنسان بدرجة أو بأخرى في مرحلة ما من حياته، فإن أغلب الذين يصبحون مشاهير من المبدعين يكونون على درجة من الثقة منذ بداياتهم بأنهم سيصبحون يوماً ما كذلك، ولكن من الصعوبة بمكان عظيم أن يكون المبدع على يقين من درجة الشهرة التي سيحققها أو من تحديد الطبيعة الدقيقة لتلك الشهرة من حيث طريقة استقبال الناس لإبداعه على اختلاف طبقاتهم وميولهم وخلفياتهم الثقافية.
الأغلب أن كل مبدع، بل كل إنسان، يحلم في بداياته بالشهرة وهو يضع نموذجاً من المشاهير يحتذيه إنْ مع سبق الترصّد أو لاشعورياً. والأرجح أن ذلك النموذج يظل عرضة للتغيّر مع تقدّم الإنسان في العمر أو مع تطوّر تجربته الإبداعية أو عبر تجارب الحياة بصفة عامة. وعندما تتحقق الشهرة لأيِّ من الناس فإنها قد تكون مشابهة لنموذج كان يحلم به، وقد يفاجأ المبدع بأنه أكثر شبهاً بما لم يطرأ على باله من نماذج المبدعين المشهورين. أما الحظ الأجمل لا ريب فهو أن يحظى المبدع بما لا مثيل له من نماذج الشهرة الباعثة بدورها لاحقاً على إلهام المزيد من الطامحين إلى الشهرة على نمط فريد.
للتواصل مع الكاتب: [email protected]