مسلسل فاتن أمل حربي
اعتدت حينما اقرأ عمل ما أن اتفاعل معه فاكتب على هوامشه متعجبًا أو مستفهما أو معجبًا، حتى فى دراستى وتكوينى الشرعي كثيرًا ما كنت أعود لأحد كتبي فأجد صفحة تنطوى على سؤال أو اقتراح أو تعديل أو حلم بتجديد.
قانون الأحوال الشخصية كان أحد المشاريع التى كتبت فيها هوامش ليست قليلة، لكن كالعادة وضعتها على رف التأجيل حتى جاء مسلسل فاتن أمل حربي.
ملأ المسلسل نفسي لدرجة الاستقزاز فأجبرنى بتفاصيله الكثيرة وزواياه المتعددة التى تستحق التوقف على الرجوع لتلك الهوامش، لمناقشة هذه التفاصيل التى ربما لكثرتها ولملء النفس بها لاأدرى من أين أبدأ؟
كانت ذروة الاستفزاز فى سؤال فاتن أمل حربي للشيخ يحى فى لجنة الفتوى، هل ربنا قال بنفسه ان الست لما تيجي تتجوز يبقى مالهاش ولاية على ولادها و تسقط حضانتها ؟ كنت انتظر من خلال قراءتى عن المسلسل قبل عرضه لحظة مواجهة فاتن للشيخ، كيف سيظهر إبراهيم عيسي المشايخ، وماذا سيقول على لسانهم، ولإى جهة تنتمى هذه اللجنة.
جاء السؤال وجاءت الإجابة ورأيت اللجنة التى أحسن صناع العمل فى عدم رفع شعار لجهة رسمية، بل تعمدوا إظهار خضوع اللجنة لجميعية إسلامية، وليس لجهة رسمية، وهذا جيد احترامًأ لهيبة المؤسسات وتقديرًا لها، فالمضمون والمعنى لا المؤسسة ولا المبنى هو المقصود.
ومن ثم يبقي السؤال الذى ينبغى التوقف عنده بالدرس والتحليل، ليس من قبيل مع أو ضد سقوط الحضانة عن الأم متى تزوجت وبالتالى تغيير القانون من عدمه فهذه زواية أخرى، إنما النقاش هنا عن واقع أبعد من هذا؛ إذ ذهب بنا السؤال لنقطة التأسيس لضربة البداية أو للحظة ثَبِّتِ العَرْشَ أولًا ثُمَّ انْقُشْ، إذ النقش على العرش قبل ثبوته قد يسقطه أو يحطمه.
فهل السؤال يفتقد للمنهجية يريد تغييب المنهجية،منهجية بناء الأحكام، أم أنه سؤال عن منهجية بناء الحكم؟ ثمة فارق شاسع بين الأمرين، فغياب المنهجية عن جهل أو عن عمد؛يؤدى لنتائج كارثية على الدين والدنيا معًا، ومنشأه الجهل المطبق وقلة الصبر على الدرس والعلم، وهما خصلتان مطبعتان فى أنفس دعاة التطرف والإرهاب، أو دعاة التزوير الذين انتهكوا مقام التنوير ودنسوه.
اختطف كلاهما الدين وارتهنوه فى جماعاتهم وأفرادهم فأساؤوا إليه تحريفًا وإبطالًا بتأويلات سطحية وأطروحات طفولية، ومن ثم فلا عجب رغم بعد المسافة بينهم، تراهم يجتمعون فى أقوال تفسد الدين أو الدنيا أوكلاهما معًا، فترى رمزًا سلفيًا أو فيلسوفًا تنويرًا يفترقان فى الهيئة والاتجاه لكنهم يتفقون فى إنكار بعض الأسس المنهجية، فتسمع منهم فتاوى مثل إرضاع الكبير، فإن ذهبت تكلمهم قالوا الدليل من الكتاب والسنة، أو ترى تنويريًا يقول لك صوم رمضان على التخيير فمن شاء صام أو أخرج الفدية، فإن ذهبت تكلمه قال لك بنص كتاب الله، وهكذا بمنتهى العبثية غير عابئين بفتنة الناس،فقد غاب عن كليهما أن الدليل منهج أعمق بكثير من شعار الكتاب والسنة.
سؤال تونه-بطلة المسلسل-مختلف فهى تعرف أن من تتزوج تسقط ولايتها وحضانتها على أولادها لكنها تسأل: هل ربنا قال بنفسه؟! وهنا يصبح السؤال عن المنهجية الذى بنى عليه هذا الحكم هل هو حكم ربانى بنص قطعى الثبوت قطعى الدلالة فتكون الحكمة؛ وعلينا التسليم أم أنه شيئ آخر.
سؤال يحمل منتهى العمق بمنتهى البساطة! خاصة حينما نرى الشيخ يحى وهو فى منزله يقلب بين كتبه ويبحث فى أوراقه بحث من يعلم أن السؤال نصف العلم، قائلًا لأمه: المفروض أنا اللى اسأل السؤال ده، بمعنى إن الفقيه الحق هو الذى يسأل عن المنهج ويعلمه قبل الحكم ومن ثم يستطيع تصور الحكم وجودًا وعدمًا.
بعدها يعود الشيخ يحى ليقول لتونه اجابته المختصرة الصادمة: لأ ربنا ماقلش كده، الفقهاء هما اللى قالوا، هنا تنطلق زغاريد الست تونه لنكون أمام عبقرية حقيقية من الإبداع البسيط!
ربما يقول البعض خاصة من رأوا الحوار سطحيًا والسؤال ينبأ عن جهل مركب وتأمر واضح على إضعاف صورة علماء الدين والمختصين بالفتوى وجعلهم يحفظون ولا يفهمون بل حتى حفظهم مكسور مطعون فيه إذ من البديهيات أن يجيب أى طالب علم -فضلًا عن أن يكون مختصًا بالفتوى – بمنتهى البساطة نعم ربنا قال كده، فلما تسأل كيف؟
يقول جاءت امرأة لرسول الله تشتكى زوجها يريد أن يتنزع منها ولدها بعدما طلقها فقال لها – صلى الله عليه وسلم -: أنت أحق به، ما لم تنكحي»، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى، إذن فكلامه كلام ربنا وحكمه حكم ربنا.
هذا منطق صنفان من الناس، الأول: سجين التراث المتوجس من كل من ليس على شاكتله ولو ظاهرًا ولو كان ابن مدرسته وخريج جامعته، فهو رعديد خائف يري طرح الأسئلة تهديدًا وجوديًا له وتبديدًا لما يحميه بغفلته أو بجهله الصادق.
أما الثانى: فهو المتطرف والإرهابي المحرف المغالى المنتهك للمنهج بالاساس طولًا وعرضًا أصلًا وفرعًا؛ لكنها فرصته ليمارس هوايته فى صب اللعنات وتوجيه الطعنات باسم الدين.
هنا يأتى دور التنوير الحقيقي لا التزوير، والتجديد لا التبديد على لسان الشيخ يحى، لأ ربنا ماقلش كده الفقهاء هما اللى قالوا كيف؟
هنا نحتاج لوقفة حقيقية، فاجابة الشيخ يحى كانت بسيطة متوائمة مع العمل الدرامى اكتفى فيها بالإشارة فقط حينما خرج وراء الست تنونه وقال لها أن ابن حزم كمان قال:لا تسقط.
سكت الشيخ يحى فى مسلسله عند هذا الحد، ليقول ابن حزم فى المحلى: مسألة: الأم أحق بحضانة الولد الصغير والابنة الصغيرة حتى يبلغا…تزوجت أو لم تتزوج.
وفى الحقيقة ليس هذا رأى ابن حزم فقط بل هو مذهب الحسن البصرى من قبله، وهو مذهب الإمام أحمد فى رواية إن كانت بنتًا فأمها أحق بحضانتها إلى أن تبلغ.
فإن تزوجت الأم بقريب للطفل لم تسقط حضانة الطفل ولدًا كان أو بنتًا عن الأم فى ظاهر قول الإمام أحمد وعند أبي حنيفة ومالك متى كان الزوج ذا رحم محرم.
فماذا فعل إذن هؤلاء بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما ابن حزم فلم يصح عنده هذا الحديث ومن ثم غلب ما هو أقوى مما يثبت أحقية الأم بحضانة الطفل وإن تزوجت.
فماذا عن أبي حنيفة ومالك وأحمد وقد صح الحديث عندهم، ومع ذلك ذهبوا مذاهب متقاطعة مع ابن حزم- أقولك دى ليله كبيره سعدتك-.
لكن دعنى أقفز بك فى قلب المنهجية- منهجية الدليل- بمسألة واحدة، فحينما تسمع أحدهم يقول لك إن صح الحديث فهو مذهبي، ثم تحت هذا الشعار ترى عجبًا فى الدين والدنيا، فقل له إن مالكًا فى موطئه تراه يقول: صح الحديث والعمل عندنا على خلافه كيف؟
هذا هو الفارق بين اناس يعرفون المنهجية،ومن ثم يعترفون بالتعددية والسعة، وبين اناس تحت بريق هذا الشعار يلغون المذاهب، ولا يعرفون سوى طريق واحد، صح الحديث -مفيش حاجه- اسمها مذاهب فى الصلاة إنما هناك صفة صلاة النبي وفقًا للأحاديث الصحيحه، فعن أى صحيح تتحدث يا رجل؟!
فقواعد الحكم على الحديث التى وضعها الأئمة بغية تحرى صحة نسبة الأقوال والأفعال لرسول الله من عدمها، برغم عبقريتها لكنها تظل بالأساس قواعد بشرية.
فما صح نسبته لرسول الله عند جمهور المحدثين توثقيًا لرواته بما يسمى بالسبر، لا يصح عند ابن القطان وغيره ممن لا يرضون التوثيق السبر من الأساس، وما صح عند مسلم تلميذ البخارى الذى يكتفى فى اتصال الرواة بالمعاصرة، لا يصح عند شيخة البخارى الذى يشترط مع المعاصرة اللقيا، وما صح عندهما لا يصح عند أحمد وابي حاتم وابي زرعة الرازيين الذين اشترطوا مع المعاصرة واللقيا السماع، وما صح فى الإرسال عند أبي حنيفة وابن جرير، لا يصح عند عيسي بن إبان وأبي بكر الرازى، وما صح عندهما وعن أبي حنيفة لا يصح عند مالك واحمد، وما صح عند هؤلاء جميعًا لا يصح عند الشافعى والبخارى، وما صح عند الشافعى والبخارى لا يصح عند ابن إسحاق الإسفرائينى وابن القطان وهكذا وهكذا.
لذا فالتافهون يقفون عند مسائل التراث تعصبا له أو ضده، والمجددون يصعدون لروح التشريع ومناهج المسائل ليحققوا مراد الله منه،كونه رحمة الله للعالمين-خد بالك للعالمين وليس للمسلمين فقط-فضلًا عن جعله فاعلًا فى حياة البشر اجمعين.
لا أدرى إن كانت كلماتى عن السؤال الوارد فى هذا العمل الفنى عقدته أم وضحته،وصلت الرسالة من إجابته أم لا؟ لكن على أية حال شكرًا لمن صنع هذا العمل فاستفذ فينا جميعًا –مؤيدومعارض-ملكة الكتابة والتعبير والبحث والتفكير شكرًا للمشاغب المستفز دائمًا إبراهيم عيسي.