صورة رجال الدين في السينما والدراما
إيمان مندور
على مدار عقود طويلة من الفن المصري، لا تزال الانتقادات الموجهة لصنّاعه مستمرة، بسبب إظهار شخصية “المتدين” بصورة غير سوية في أغلب الأدوار، وتحديدًا دور المنافق، ثقيل الظل، المتاجر بالدين، المكبوت جنسيًا أو اللاهث وراء النساء طوال الوقت، فضلًا عن نهمه للطعام، وتصنّعه باستخدام اللغة العربية الفصحى في حديثه العادي حتى مع أهل بيته، وغيره الكثير من الصفات التي يرى البعض أن السينما والدراما ألصقتها بشخصية المتدينين بغير وجه حق.
على الجانب الآخر، يرى القائمون على العملية الفنية أن هناك تربصًا بما تقدمه السينما والدراما عن شخصية المتدين، بدليل تجاهل ما تقدمه من عشرات ومئات النماذج لشخصيات فاسدة في المجتمع، لا تقتصر على متدينين فقط، بل هناك أطباء وأساتذة جامعات ورجال أعمال وآباء وأمهات وغيرهم الكثير من الشخصيات التي تظهر بالخير تارة وبالشر تارة أخرى، فلماذا التركيز على شخصية واحدة وتجاهل باقي الأدوار؟ وهل فساد شخصية في قصة درامية يعني بالضرورة فساد كل من يمتهنها في الواقع؟ وحتى لو كان هناك فاسدًا بها في الواقع فلا يضير أصحاب المهنة ولا المهنة ككل في شيء، وإلا اعتبرنا كل الوظائف في المجتمع فاسدة بسبب ظهور مجرمين أو نماذج سيئة من بين ممتهنيها.
غير أن الرد العكسي لهذا الرأي هو أن شخصية المتدين أو رجل الدين وتحديدًا المسلم، لا تظهر سوى بالشر والفساد في أغلب الأدوار، ولا يُطبّق عليها ما يحدث مع باقي الشخصيات من خير وشر، مما يشير إلى أن هناك تعمّدًا لتشويه صورتهم أمام الجمهور وفي نفوس الشباب تحديدًا فيبتعدون عن الدين، بل يذهب بعضهم إلى اتهام صنّاع الفن بالانحياز للدين المسيحي ضد الإسلام، باعتبار أغلب النماذج الدينية المسيحية التي تظهر في الأعمال الفنية تتسم بالتسامح والمحبة.
ويرد صنّاع الفن بدورهم بأنه من الطبيعي أن تكثر أدوار رجال الدين الإسلامي على حساب الدين المسيحي في الأعمال الفنية، باعتباره الدين الرسمي للدولة وأغلب مواطنيها من معتنقيه، فكيف ستخرج الدراما عن نسق الأغلبية في المجتمع، فضلا عن كون أي دور فني سواء بالخير أو الشر لن يهين أو يعظم الدين، أي دين. الأمر مجرد فن لا يعبّر إلا عن نفسه سواء من الواقع أو من خيال المؤلف.
سنوات طويلة من الجدال والرد والنقاش حول صورة رجال الدين في السينما والدراما، إلى أن جاء رمضان 2022 وتصدرت النماذج الدينية الأعمال الدرامية المعروضة خلال الموسم، فمن الوليّ الصالح صاحب الكرامات، للعالم الواعي الرافض للتشدد، للشيخ المتاجر بالدين، للزاهد العابد الذي يحارب الجن فيتعلق به البسطاء… وغيرها من النماذج التي تباينت في تفاصيلها وشخوصها وأحداثها، لكنها اجتمعت في إثارة الجدل المعتاد حول إشكالية تقديم رجال الدين في الدراما المصرية.
الإشكالية هذا الموسم ليست في تقديم فكرة النموذج السلبي، مثل استخدام جماعة الإخوان للدين ستارًا لرغبتهم في الوصول للحكم كما يوثق ذلك مسلسل “الاختيار 3″، أو نماذج داعش الإرهابية المقدمة في مسلسل “بطلوع الروح”، ولا حتى الشيخ المتزمت الذي ينهر المرأة والداعية الشاب الذي يستخدم الدين للتربح من مشاهدات اليوتيوب أو الزوج القاسي المتزمت ظاهريا تجاه أمور دينية معينة رغم انفلاته أخلاقيا كما في مسلسل “فاتن أمل حربي”، فهذه نماذج موجودة وواقعية ومعروفة للجميع، لكن أزمة الموسم الحالي كانت في الصورة الجيدة عن رجل الدين الأزهري مثل محمد الشرنوبي في “فاتن أمل حربي“، والعابد الزاهد مثل أحمد أمين في “جزيرة غمام”.
أي أن إشكالية الموسم الحالي تنحصر فيما أطلقوا عليه “دس السم في العسل”، وهو تقديم نماذج دينية ليست سلبية، بل متسامحة ومتدينة ومحبة للخير والإله والبشر، لكن يتم من خلالها تمرير العديد من القضايا التي تؤثر على صحيح الدين، أو طرح تساؤلات دينية مباشرة على لسان بعض الأبطال والرد عليها بأحداث تؤيد وجهة نظر الكاتب في القضية، وتحديدًا فيما يتعلق بالكاتب إبراهيم عيسى مؤلف مسلسل “فاتن أمل حربي”، الذي نال القسط الأكبر من الهجوم باعتبار العمل يعبر عن أفكاره التي سبق وأن صرح بها في برامجه التلفزيونية.
وبين هذا الصخب الدرامي، يأتي عرفات الزاهد العابد الولي الصالح الذي يجسده أحمد أمين في “جزيرة غمام”، ويراه البعض محاولة مباشرة للحث على الزهد والتصوف بطريقة “الدروشة” الزائدة عن الحد، رغم أن الدين ليس بالكرامات والاهتمام بالقلوب فقط، بل بالمعاملة والعلم والفقه، فضلا عن وجود إسقاطات سياسية وأخرى دينية يدركها جمهور المسلسل بسهولة من الشخصيات والحوار القائم بينها.
اللافت أنه رغم انقسام الجمهور حول تقييم هذه الشخصيات والنماذج الدينية، إلا أن هذا الأمر لم يمنع الإشادة بجودة أداء الممثلين في تقمص الشخصيات، لذلك حتى المختلفين مع شخصية عرفات في المسلسل يشيدون بأداء أحمد أمين، وكيف أنه أثبت موهبته الفنية التي كان يظنها البعض محصورة في الكوميديا فقط.
وهذا بالطبع ينقلنا لتقييم أداء الطرف الديني الثاني، لكن في الواقع لا يمكن المقارنة بين أداء أحمد أمين في “جزيرة غمام” وبين محمد الشرنوبي في “فاتن أمل حربي”، لأن المقارنة محسومة لأمين من البداية للنهاية.. عكس الشرنوبي الذي لم يخرج عن الأداء “الكيوت” في أعماله الفنية حتى الآن.