انطلقت الدورة الثالثة والعشرين من مهرجان الإسماعيلية السينمائي للأفلام التسجيلية والقصيرة، تحمل بين طياتها خمسة مسابقات، تنوعت أنواعها ما بين التسجيلي الطويل والقصير والروائي القصير وأفلام التحريك وأفلام الطلبة.
ما يقرب من السبعون فيلماً تم عرضهم على مدار خمسة أيام، عدد لا بأس به، يُمكن من خلاله متابعة الاتجاهات الحالية للسينما التسجيلية الحديثة، وفهم مسارات الإنتاج، وآلية الأفكار المطروحة، والتي تتماس بشكل أو بأخر مع الهم والشأن العام والخاص، فصانع الأفلام يطرق ما يؤرقه من رؤى قد تنحاز نحو المتفرج، وتلمس برقة أو تقتحم بقوة ودون مواربة ما يدور في عالمنا المعاصر من قضايا وأفكار.
من هذا المنطلق، عُرض في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة، وهي المسابقة الأبرز في المهرجان، إحدى عشر فيلماً، تنوعت مصادر وبلدان إنتاجهم، وإن كانت الغلبة الأوروبية جلية وواضحة، يعقبها السيطرة الإفريقية، لكل من مصر والمغرب، بفيلم لكل منهما، ثم تتوالى الإنتاجات الأسيوية والأمريكية الجنوبية على حد السواء من حيث الناحية العددية.
هذا التنوع الإنتاجي والمكاني، والذي يُغطي تشكيلة واسعة من التمثيل الجغرافي، قابله تنوع ووفرة فكرية، يُمكن لمسها عبر ثراء المضامين التي تتعرض لها الأفلام، وبالتالي يُمكن حصر هذه الأفكار في رُحى أربعة تيمات، تناولتها الأفلام، سواء بشكل منفرد، أو بشكل مشترك، كبعض الأفلام التي تدور في نفس الإطار والتناول، وإن كان من وجهة نظر مُغايرة، لكن يظل التوجه والرؤية العامة واحدة.
القضايا الإنسانية، فضيلة الحرية، التيمات السياسية، والأفكار الوجودية والفلسفية، تداولت الأفلام هذه الأفكار، بين بعضها البعض، سواء بالاقتراب الحذر، أو الاندماج المطمئن، بعض هذه الرؤى يتسم بالطزاجة، والبعض الآخر إعادة تدوير، لكن تبقى للمعالجة والتناول القدرة على التجديد.
نستعرض هنا قبس من أهم الأفلام التي عُرضت في هذه الدورة، ونلقي الضوء على الهموم والرؤى الحالية لصانعيها.. سعياً للفهم وبيان مدى النجاح في كيفية القول وماهية التعبير.
تتبع الحيوات البشرية، ومتابعة تفاصيلها وما يدور في أعقابها، من تطورات متلاحقة، تيمة شهية، تُغري بالتناول، ليس من الناحية التاريخية، أو كما ما يُسمى في الأدب العربي القديم بالتراجم، لكن من زاوية مُغايرة، تلتقط التفاصيل الصغيرة، وتأنسنها، تجعلها ملموسة ومُقربة بشكل يُمكن من خلاله الإحساس بها وكأنها ماثلة أمامنا.
من هذه الزاوية يأتي الفيلم المصري “باب الدنيا” لـ “عبد الرحمن محمود” في أولى تجاربه الإخراجية، بعد سنوات من العمل في هندسة الصوت، قد يبدو هذا الفيلم وكأنه يؤرخ لحادثة رحيل المخرج “محمد رمضان” أثناء رحلته الجيلية في رحاب سانت كاثرين، لكنه رغم إعتماده على هذه النقطة، إلا أنه ينطلق في أرضية أرحب، فيتتبع بكاميرا هاتفه المحمول تفاصيل رحلة صديقه “رمضان” ورفاقه، يسير في نفس الممرات، وفي نفس التوقيت، لكن السؤال الجوهري الطارق للذهن بإلحاح، هو لماذا؟ هل توثيقاً وتأبينا لصديق قديم؟ أم رغبة في إكتشاف المجهول؟ وتلبية لنداء خفي، لا يدري مصدره سوى مُجيبه؟
الإجابة متناثرة أحرفها داخل الفيلم، الذي رغم بطئ إيقاعه اللافت، واعتماده على ثنائية الأبيض والأسود، إلا أن قدرة صانعه على إجتياز تلك المعابر صعوداً إلي مقر الحادثة، بما يجعل المتفرج مُعايشاً ومُلماُ بتفاصيل الواقعة، يجذب المتفرج، ويجعله يعثر على شيء ما جديداً، ألا وهو أن “محمد رمضان” لم يكن الوحيد ضحية تلك الحادثة، فصديقه “محمود الجمل” الرحالة “ملك الدروب” كما يُطلق عليه، ذهب هو الآخر بعد سنوات من الحادثة الشهيرة، ليبدو الفيلم مهموماً بإقتناص تلك اللحظة الشفافة، التي تدفع انسان ما للمثول بين حضرة التجلي المقدس للموت دون رهبة، بل وباستسلام كامل يبعث على الاندهاش.
تناولت العديد من الأفلام تيمة الحرية، والبحث الشاق للوصول إليها، كل منها يتطرق إليها من الزاوية المعنية إليه، سواء كان هذا التحرر داخلي أي يعتمل بداخل شُعب النفس الإنسانية، أو خارجي تعبيراً عن صراع تشتعل أطرافه بالداخل احتراقاً، وفي الفيلم البلجيكي “أنا حر” أو Soy Libre سيناريو وإخراج “لورا بورتيير” والحائز عن إستحقاق على جائزة أفضل فيلم، تقتحم المخرجة المحظور في حياتها الخاصة، وتجعل من شقيقها بطلاً في أول أفلامها التسجيلية الطويلة، ليس بوصفه مادة تستحق أن تروى، وفي هذا حق لها ولا يُقلل من قيمة العمل، بل بوصفه تعبيراً مجازياً عن الحرية وفق رؤيتها، التي غلفت الفيلم بصورة واضحة.
“آرنود” مراهق في منتصف العقد الثاني، يُعاني من إهمال جسيم وخلل في علاقته بوالديه، في حين علاقته بشقيقته تتكون وتتطور على استحياء، ضاعفها وراكمها سنواتهما المتعاقبة معاً، التي استعانت المخرجة ببعض موادها الأرشيفية لاستكمال فيلمها، فالفيلم يدور حول الشقيق الأصغر للمخرجة، الذي تتحول حياته من النقيض إلى عكسه، من مجرم ذو سابقة، إلى إنسان يولد من جديد.
يعتمد الفيلم على اللقاءات المصورة سواء من قِبل المخرجة، أو بواسطة البطل نفسه، الذي يُسجل يومياته بالكاميرا، وكأنه يخرج من شرنقته الذاتية، الرافضة للعالم، نحو أفق أكثر رحابة، تستقبله بحنو، هو في احتياج عميق له، يُتابع السرد بأسلوبه البطيء ما سبق من حياة بطلنا، لُندرك بواعث تلك التجربة الغريبة، فــ “آرنود” يتخذ من الشارع والغابات موطناً له، لا يُمكث بين أربعة حوائط إلا فيما قل ونَدُر، يبحث الفيلم عن أسباب تلك الحياة العجيبة، ومُستكشفاً رحلة البطل نحو الحرية، ففي الحرية ميلاد وبعث جديد، بعد كبت وإرهاصات، امتدت توابعها لزمن ليس بالهين.
للأفلام ذات النكهة السياسية، بصمتها وألقها، وقدرتها على الجذب المغناطيسي، بقوة الأفكار المطروحة، ولا تخلو قوائم الأفلام في أي مهرجان من هذه النوعية، وفي هذه المسابقة، امتزجت الموضوعات السياسية بالخلفية التاريخية، وذلك من خلال الفيلم الهندي “الشريط الحدودي” أو Borderlands إخراج “سامارث ماهاجان” والفيلم الفرنسي “هرب” أو Eskape إخراج نيري آدلين هاي.
كلا الفيلمين يتخذ من الخلفية السياسية أرضاً صلبة لطرح أكبر ذا بُعد إنساني واضح الدلالة، في الفيلم الأول نرى حيوات بعض الأفراد على حافة الحدود، لكل منهم حكايته، وبما يُمثل خطاً سردياً خاصاً يلتحم بالفكرة الرئيسية، ويساهم ليس في الكشف عن أنماط المعيشة المتباينة، لكن يمتد لما هو أعمق، ألا وهو الرغبة الدائمة في الوصول لنموذج مثالي للعيش، يرفرف بعيداً عن فكرة الحدود المتربصة بأحلامهم.
البحث عن الأصول والرغبة في استلهام المزيد من المعرفة عن المجهول من التاريخ، هو محور الفيلم الفرنسي “هرب”، فالمخرجة تبحث فيما جرى في كمبوديا وطنها الأصلي بعد سقوط نظام الخمير الحمر، الأم لا ترغب في كسر حاجز الصمت الكثيف حول حياتها، خشية العودة المؤلمة لماضي يأبى الاندثار من الذاكرة، فلا حيلة تلجأ إليها بطلتنا سوى استعادة تلك الرحلة إلى هناك.
وبالتالي بدا الفيلم يحوي جرعة تشويقية لا بأس بها، سواء من ناحية الموضوع أو الأسلوب، فإعادة قراءة التاريخ السياسي، وبلورته وتقديمه مُجدداً، خلطة جذابة، وقد نجح الفيلم في مقاديرها بدرجة كبيرة.
تبدو الأسئلة الوجودية ذات الصبغة الفلسفية وكأنها نهر دائم التدفق، ينهل منه المخرجون ما ينسجم مع همومهم الذاتية، أو يلتقطون ما يُلفت أنظارهم ويفتح شهيتهم نحو الاقتناص، وفي هذا الإطار جاء الفيلم المغربي “صرة الصيف” إخراج سالم بلال والذي حصد جائزة الفيبريسي، والفيلم السلوفاكي “البحار” أو The Sailor إخراج لوشيا كاسوفا والحائز على تنويه خاص من لجنة الفيبريسي، و”البحث عن الأحصنة” أو Looking For Horses الفيلم السلوفاكي الفرنسي المشترك.
ثلاثة أفلام تختلف مواضعيها وتتفق هويتها الفكرية، كل منهم له رؤيته للحياة، ويُقدمها من زاوية مختلفة عن الآخر، في الفيلم المغربي “صرة الصيف” نرى حياة الصحراء، أو العيش على الحافة، حسب تعبير الكاتب شكري عياد، بعيداً عن صخب المدينة وضجيجها، تبدو حيواتهم وكأنها في مسار مغاير، في معية الله سبحانه وتعالى، فالأذكار على السنتهم سيل منهمر، يأتنسون بالهدوء، وفي خضم عزلة، أشبه بسجن، لكنها مُحببة إليهم.
وعن الحياة وتشعباتها المتعددة، يأتي فيلم “البحار” لُيجيب على تساؤلات الحياة وماهيتها، وفي فيلم “البحث عن الأحصنة” صاحب جائزة لجنة التحكيم الخاصة، يقتحم المخرج حياة صياد يعيش منفرداً منذ تسعة عشر عاماً، تنشأ بينهما صداقة قوامها الصفات المشتركة بين كل منهما، فإذا كان البحار يُعاني من ويلات الحرب، فالمخرج هو الآخر ضحية لها، حينها تبدو قيمة الحياة بكل ما بها من تلقائية هي البطل الأطغى حضوراً.
من ثم تبدو تساؤلات الحياة ومغزاها حاضرة بقوة، كتيمة مشتركة، يُمكن من خلالها بلورة الأفلام وقراءاتها.