فرحين أنتم بانتهاء أغسطس؟؟
حسناً.. أكاد أكون الوحيد الذي لم يفرح ببداية سبتمبر/ أيلول.. الملعون.
والحكاية هنا شخصية للغاية، ذاتية للغاية، وموجعة للغاية.
ففي أيلول اعتدت أن أفقد الأحبة، صديق وحيد منذ الطفولة راح في حادث مفجع في سبتمبر 2000 ، و والد صديق مقرب كان بمثابة الأب راح في سبتمبر 2001 ، وأكثر من فرد من العائلة أذكر تواريخ وفاتهم جميعا والتي أتت كلها مرتبطة بسبتمبر… وجاءت الضربة القاصمة قبل عشرة أعوام تماماً، وفي مثل هذا اليوم، الخامس من الملعون سبتمبر، حين فقدت عدداً ضخماً من الأساتذة والأصدقاء والزملاء، في حادث أوجع قلب مصر كلها حين أتى على أجساد 50 إنسان دفعة واحدة… وقيل أن السبب.. شمعة!!!!!!!!!!!
كنت قد انتهيت من دراسة المسرح قبل أشهر، وكنت وقتها أتدرب بجريدة الجمهورية، واثناء إشعالي لسيجارة مارلبورو أبيض أذكر طعمها جيداً، جاءتني مكالمة هاتفية من زميل الدراسة باسم شريف بأن الحادث أتى على فلان وفلان وفلان وفلان وفلان وفلان وفلان… وقعت سيجارتي رغماً عني، ولم يذهب طعم مرارتها حتى الآن.
وفي اليوم التالي، تجمع المئات أمام المعهد العالي للفنون المسرحية، للمواساة والتعزية، وإعلان الغضب، والتساؤل… بأي ذنب قُتل هؤلاء؟؟
ولأن السنوات العشرة مرت بلا جديد، ولأن أثر الحادث المرير لم يزل، ولأن طعم سيجارتي مازال محتفظاً بمرارته، فإنني أكتب اليوم متأذياً مكرراً ذات السؤال للمرة المليار على مايبدو: لماذا لم يتم القبض على الشمعة المسؤولة عن الحريق حتى اليوم؟؟
لغط وضجيج غير طبيعي عشناه وقتها، وظل وزير الثقافة الأشهر صاحب لوحة “الوعي المنتصب” ، الذي كلما تذكرته تذكرت مقولة الشاعر والكاتب وأستاذ المسرح الراحل (نجيب سرور) : وزير من الوِزر…. فاروق حسني.
ظل فاروق حسني يملأ رؤوس المجتمع بكلام فارغ طيلة أسابيع، إلى أن “مات الكلام” كعادة كل شئ في الوطن.. مات الكلام كما مات (مؤمن عبده) المدرس المساعد بقسم علوم المسرح بآداب حلوان، والذي إن حكيت عن ذكرياتي معه ومع مهارته في إحتواء تلاميذه لملأت كلماتي مئات الصفحات… والذي لن أنسى ماحييت شكل ملامحه التي أكلها الحريق، والتي بكيت بسببها لأسابيع.
مات الكلام، كما مات أستاذي الجليل (حازم شحاتة).. الذي فهمت منه أنه لا يجوز لي أن أكون طالب مسرح إلا حين أقرأ (لستة مسرحيات وكتب) أعطاها لي بنفسه رحمه الله.
مات الكلام، كما مات صديقي (شادي الوسيمي)، دفعتي وابن أيامي.. الممثل المجتهد الذي تركه رجال الدفاع المدني حتى احترق رغم أنهم كانوا على بُعد خمسة دقائق فقط من مكان وفاته.
مات الكلام، كما مات (حسن عبده)، دفعتي الذي كان يحلم بأن ينضم لعضوية نقابة المهن التمثيلية فكان أن انتسب غلى كليتي رغم أنه يكبرنا بسنوات، ورغم أنه حصل سابقا على بكالوريوس من كلية الفنون الجميلة… (حسن) الأخ الأكبر، والصديق الناصح، ورفيق ساعات المذاكرة الطويلة، رحل لأن خراطيم المياه كانت منزوعة المياه، كما كان المسؤولون منزوعو الضمير، لم توقظهم صرخات الذين ماتوا حرقاً
مات في المحرقة أساتذتي د. صالح سعد، الرجل المبتسم الودود الذي تشرفت بالعمل معه لبعض الوقت كما تتلمذت على يديه لشهور… د. محسن مصيلحي، الرجل المسرحي بامتياز والذي فضل أن يذهب لمشاهدة عرض (ثقافة جماهيرية) في بني سويف البعيدة إيماناً منه برسالته كأستاذ مسرح مرموق.
كما مات أيضاً الفنان الخلوق “بهائي الميرغني”.. ابو الكل و صديق الجميع.
وفقدت في هذا اليوم الملعون الناقد المبجل “نزار سمك” أول من أخذ بيدي في عالم الكتابة الفنية.
خسارتي في هذا اليوم لم تكن أبداً بالهينة، خسارة مازلت أجتر طعمها وسأظل حتى يتطهر هذا الوطن ويحاسب المسؤول عن حرق 50 إنسان في علبة أسمنتية مغلقة أسموها مسرحاً، المسؤول عن غلق باب المسرح من الخارج بالجنازير، المسؤول عن ترك الضحايا يجرون بالشوارع محروقين، المسؤول عن الثقافة المصرية الذي ترك خيرة شباب ورجال المسرح بالبلاد .. يموتون حرقاً.