عمرو منير دهب
“دفعتْ بي الظروف في عام 2005 إلى لعب دور عام لم أتوقعه، بعدما طلبت مني وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس العمل منسّقاً لمكافحة الإرهاب برتبة سفير متجوّل. وهذا تعيين رئاسي وتطلّب تثبيتاً علنياً من مجلس الشيوخ>. وافقتُ على العرض مدركاً أنني أضع بذلك حدّاً لحياتي كجاسوس”.
هكذا يتحدّث هنري أ. كرامبتون Henry A. Crumpton ضابط العمليات المتقاعد بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مقدمة كتابه “فن التجسس” The Art of Intelligence ، النسخة العربية صادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ببيروت عام 2014. يواصل كرامبتون: “قفزت من الخزانة، من العالم السري للجهاز الخفي، إلى مسرح الدبلوماسية العامة العالمية بوصفي ممثلاً للرئيس ولوزيرة الخارجية في سياسة مكافحة الإرهاب. وبدأتُ حياة جديدة متحوّلاً من جاسوس إلى دبلوماسي، من العمل الخفي إلى المقابلات التلفزيونية الدولية، ومن مزيج من الأسماء المستعارة إلى لقب محترم. والأكثر من ذلك كله هو أنني انتقلت من جامع للاستخبارات إلى مستهلك لها، من ضابط عمليات إلى مستشار وصانع للسياسة ومطبّق لها. وعندما التقاني الرئيس بوش أولاً في وزارة الخارجية سأل الوزيرة رايس: أقاطع الرقاب دبلوماسي؟ هل ينجح في ذلك؟”.
يعرض الكتاب الذي تم تحريره ببراعة للعديد من مغامرات جاسوس من طراز رفيع ولبعض من جوانب حياته النفسية، لكنه للأسف لا يقف بوضوح على ما نحن بصدده الآن: كم مرة تراود الجاسوسَ أحلامُ الشهرة وهو يمارس عمله في تعتيم شبه مطلق؟
تقول الطرفة المتداولة، بناءً على قصة يقال إنها واقعية، إن جاسوساً (من طراز غير رفيع كما تفصح عن ذلك دلالة الطرفة) كتب على لافتة منزله المتواضع – تحت اسمه – عنوانَ وظيفته الحقيقي: “بوليس سرّي”، وهو اللقب الذي كان شائعاً حينها عن عميل/موظف المخابرات في بضع دول عربية.
عندما يتعلّق الأمر بمواجهة الذات أمام أحلام الشهرة، فلا أظن أن ثمة من هو أصدق من ذلك العميل متواضع المهارات الاستخباراتية. غير أن أحلام الشهرة مهما تبلغ من العظمة لا تتطلّب بطبيعة الحال للتعامل معها – من قبل موظف الاستخبارات – تهوّراً على تلك الشاكلة، والمؤكد أن رؤساء ذلك العميل البسيط كانوا يستخدمونه لأغراض أخرى غير الحصول على المعلومات السرية، أغراض ربما من قبيل تمرير المعلومات التي يراد أن يُشاع أنها سرية، وهذا ليس ما يعنينا في هذا السياق على كل حال.
يُقال إن مهنة موظف الاستخبارات تتطلّب شخصاً يحب بطبيعته أن يعمل في الخفاء ويشعر الراحة والرضا لذلك، لكن الإنجازات العظيمة التي يحققها موظف الاستخبارات ويذيع صداها بين الناس لا بدّ أن تحمله على بعض الشعور بالأسف كون الآخرين لا يعلمون شيئاً عن دوره فيها. وقد يتلذّذ بالفعل عميل ناجح بدوره السري الذي يجهله الناس، لكن التوق إلى تقدير الناس المباشر لا بدّ أن يراوده من حين لآخر، والأرجح أن التعويض المباشر لذلك النقص العاطفي جرّاء غياب دوره الخطير عن إدراك الناس – ومن ثمّ تقديرهم له – يتمثّل في كثير من الأحيان في المعرفة التي تحيط بها الشكوك من قِبل المقرّبين من العميل (في محيطه الاجتماعي تحديداً) لمهمته الخطيرة وما يمكن أن يُنسج حولها من أساطير تتجاوز أعظم إنجازات العميل المتحققة بالفعل.
أقرب إلى حال موظفي الاستخبارات على هذا الصعيد أولئك الذين لا يحبّون الأضواء، كما في التعبير الشائع، وهو تعبير يشير إلى الخوف من المناسبات الاجتماعية والمواجهات الإعلامية أكثر مما يعني عدم حبّ الشهرة. وعندما يصرّ بعض مَن “لا يحبون الأضواء” على الفرار من كل ما يدعو إلى الشهرة فإنهم في الواقع يفصحون عن خوف من الشهرة أكثر مما يعبّرون عن كره لها. وإذا كان لا بدّ من وصف ذلك الصنيع بكونه كرهاً للشهرة فإن كره ما لا يقوى المرء على تحمّله من مقتضيات وتبعات الشهرة أكثر من كونه كرهاً للشهرة نفسها. فإذا أصرّ البعض على أنه كره للشهرة نفسها، فإنه على الأرجح كره من باب عداوة المرء لما يجهله أو لما لا يحسن التعامل معه، بحيث إذا ذُلّلت أمام ذلك الكاره العقبات تجاه ما يجهله لن يغدو ثمة مانع من أن يتعامل معه بحياد أو حتى بمحبة ظلّت مستترة خلف حُجب الخوف بدافع الجهل.
بالعودة إلى هنري أ. كرامبتون ومقدمته لـ”فن التجسس” نقرأ: “وتبقى المفارقة ومفادها: كيف يمكن لضابط سابق في السي آي إيه الحفاظ على الشرعة الثقافية للمحترف الساكت، والسعي في الوقت نفسه إلى إطلاع العامة وتوسيع المدارك ويدعم بذلك مهمة الاستخبارات؟ وأنا أسعى إلى إيجاد التوازن المناسب بين التحفّظ المشرّف لجاسوس متقاعد وبين المسؤولية العامة لمواطن نشط. لم أرد، عند تقاعدي، وضع كتاب، إلا أن الوكيلين الأدبيين أندرو وايلي وسكوت مويرز، وغيرهما، امتلكوا القدرة على الإقناع… ودعاني سكوت وأندرو إلى مكتبهما في نيويورك حيث أقنعاني بأنه يمكنني، بل يتوجّب عليّ، أن أساهم ببعض ما أعرفه”.
بذلك واصل كرامبتون إيغاله في عوالم الأضواء، فبعد عالم السياسة يدخل عالم الكتب، حتى إن لقبه الآن في صفحته/مقالته على ويكيبيديا الإنجليزية هو “مؤلف Author” وليس “موظف استخبارات متقاعد” أو “دبلوماسي برتبة سفير متجوّل”. لا يعني ذلك أن كل جاسوس يحلم بمنزلة هنري كرامبتون من الشهرة (النسبية)، بل يعني أن السيد كرامبتون تحديداً كان على الأرجح يتطلّع بشغف إلى الأضواء، وعندما سنحت له الفرصة للعمل العام أمام الأضواء الكاشفة كان مهيّأً لذلك والأرجح أنه أحبه. ولكن فرصة مماثلة قد تسنح لجاسوس آخر فيركلها بقدميه، ليس زهداً في الأضواء ابتداءً وإنما خوفاً من أن يرشح جلدُه بالعرَق أمامها.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])