طارق إمام
تُنيرنا لحظات الوهج، نمُد الخُطى ونرفع الرأس فخرا بجيل أنفق صباه وشبابه وقارب كهولته في أوج العصر المباركي، حيث السكون هو سيد اللحظة، وحيث لا لون ولا طعم ولا رائحة. نفرح كلما أفلت أفذاذ ـ منا ـ ليرسموا مسارات مُضيئة تتحدى عتمة العالم.
من هنا، أشعر بسعادة غامرة كلما فك أحد أبناء جيلي من مواليد السبعينيات أغلال الانسحاق للقطيع وشب عن الطوق، وردد صيحتنا المكتومة التي كُنا نرددها ونحن في مدارس وجامعات مبارك “افسحوا الطريق.. إننا قادمون”.
لم نكن نذهب حيث نريد ولم يكن هناك مَن يُفسح لنا الطريق، فالحواجز الطبيعية والصناعية لا حصر لها، والحُفر والمطبات تملأنا يأسا وإحباطا.
من هنا فإن سعادتنا بتألق وسطوع طارق إمام واحدة من هذه البهجات التي كنا نأملها، ذلك أنه حقق ما أردنا، ما حلمنا به، وما تمنيناه. لقد فتح هذا المبدع الجميل الباب ليطل ونطل خلفه، كسر المألوف والمعتاد، وغيّر وبدّل ومارس كل أنواع التجريب الممكنة، رسم مسارا جديدا يخالف المسارات المعتادة، ورمى حجرا طائشا في بحيرة المياه الراكدة. كتب كما أراد أن يكتب، لا كما أراد من سبق، وصنع إبداعه على طريقته.
لم يكن طارق إمام مجرد روائي جميل لنصفق معجبين بما يخُط، لم يكن مجرد حكاء يثير دهشتنا وغرابتنا لنُقرر أنه يستحق جائزة واثنتين وثلاثة، لم يكن رساما محترفا يصور لنا أناسا نراهم كل يوم ولا نشعر بسماتهم الفارقة، وليس هو غازل كلمات وساحر لغة يمتلك القدرة على تشبيك السرد والجمال معا فاتحا نوافذنا على جنة الابداع. إنه كل ذلك معا بل هو مدرسة جديدة ولغة جديدة ودرب جديد ينفتح لنا بحرية لا حدود لها. يحفزنا ويُشجعنا ويحرضنا أن نُجدد، ونُغير، ونطور، ونبدل. أن نكون ما نريد، وأن نُجرب ما نحب. أن نقول كلمتنا الجديدة البكر، لا نُردد ما سطره السابقون وسابقوهم.
أجمل ما في طارق هو كسره للسلف. رفضه أن يولد كصدى للماضي، تمرده على السائرين نياما، وكفره بعبارة “وجدنا آبائنا لها عابدين” لقد كان أفضل ما صنعه أنه امتلك الثقة والجرأة والجمال أن يقدم جديدا، إيمانا منه بأن الفنان هو صانع الحداثة، وهو رسول التطور، وسلطان التجديد.
صحيح أننا نفتخر بأسماء رنانة لرواد عظام نما لحم الإبداع لدينا من خيراتهم، وصحيح أن بلادنا عامرة برواد كتابة متنوعين آثاروا شغف وإعجاب أجيال وأجيال، وصحيح أننا نكن لهؤلاء جميعا كل تقدير واحترام ومودة، لكن ذلك لا يعني أن نُكررهم، ونستنسخهم، وأن نسير على دربهم، وهذا ما حققه طارق إمام في معادلة هي الاًصعب في بلادنا.
من هُنا تابعت تجربة شديدة الاختلاف لطارق إمام. رفضه القطيع، أنكر النقاد محاولاته التجريبية، وربما استغرب جمهور القراءة في البداية رؤاه وأفكاره ولغته، لكنه واصل سلوكه، وفرض فنه وسحره، وخاض تحديات صعبة وربما وصل به الإصرار على التميز والاختلاف إلى ذروة الروعة في روايته الأحدث “ماكيت القاهرة” ليرسم لنا تحولات الناس، والأماكن، والسلوك في مدينة مزدحمة تستعر بديكتاتورية سكانها، وتقاليدهم الراسخة منذ آلف سنة.
يقول لي وأنا أصدقه “إن دوافع كتابة أي نص روائي غالباً ما تكون كثيرة ومتداخلة ومعقدة، لكن أستطيع أن أقول، بقدرٍ من التبسيط المخل، إنني مسكون منذ سنوات بكتابة نص عن تحولات القاهرة انطلاقاً من ثورة يناير 2011 وطرح تساؤلات عديدة عن هوية المدينة نفسها والتي شهدت خلال عقد واحد خلخلات عنيفة ربما لم تشهدها بهذه الحدة منذ عقود. لقد كان لدي طموح لقراءة جيل محدد أنتمي له”.
في رواية ” طعم النوم” تولى طارق مهمة إنطاق الساكتات من فتيات أرغمن على العمل في بيع أجسادهن، وسبق لياسوناري كواباتا أن حكى لنا عنهن في رواية “منزل الجميلات النائمات”، ثم فعل الأمر ذاته غابريال ماركيز في “ذاكرة غانياتي الحزينات”، لكن أيا منهما لم ينطق الفتيات.
أصر طارق أن يخالف الرواد، يعارضهم، ويسير إلى جوارهم، لا ورائهم ململما ما تركوه، ومُصححا ما فعلوه ليُقرر لنا جميعا أن الفن هو الحرية، لا التكرار.
في روايته ” الأرملة تكتب الخطابات سرا” يؤكد لنا أن الروائي الحق هو مَن يتقمص أصوات أبطاله، ليترك لنا عبارات آسرة مُدهشة جميلة تتماهى مع الشعر. فاللغة في تصوره هي جزء أصيل من مشروعه الأدبي، والمعنى لا يأتي إلا ملتبسا بلغته. إنه يرى أن إحساس الكاتب باللغة موهبة وهي موهبة توجد أو لا توجد ولا يمكن افتعالها أو اصطناعها.
يقول لي – وتعجبني مقولته – “إن فن الرواية فن عظيم جدا لأنه قضى على المركزية الغربية، وسمح للأطراف أن تعلو وتمحو فكرة أفضلية الأوروبي الأسطوري، وليس أدل على ذلك من ظهور ماركيز من أمريكا اللاتينية، وسلمان رشدي من الهند، وموراكامي من اليابان، وميلان كونديرا من التشيك.” ويضيف وترضيني إضافته “إننا يجب أن نحب الرواية لأنها حققت هذا الانتصار الذي لم يحققه أي مجال آخر ضد الإمبريالية العالمية”.
لكل ما سبق فإن طارق إمام يمثل أحد مصادر بهجتنا.