إسلام وهبان
حالة فريدة من الإبداع والتجريب قدمها الكاتب والناقد طارق إمام، خلال مسيرته الحافلة التي تمتد لأكثر من 25 سنة، أثرى خلالها المكتبة العربية بـ 12 عملا أدبيا، ما بين رواية وكتاب قصصي وحكي للأطفال، فضلا عن عشرات المقالات النقدية والتحليلية الهامة.
في أثناء هذه الرحلة كانت هناك محطات هامة في مسيرة طارق إمام، من خلال عدد من أعلام الأدب والصحافة والفكر في مصر وخارجها، الذين مهدوا له طريقا لم يكن بالهين، وفتحوا له آفاقا جديدة، لكنه تعامل بمقولة “جوتة”: “كن رجلاً ولا تتبع خطواتي”، ليخلق لنفسه دربا مختلفا عن طرقاتهم.
وفي هذا التقرير، يستعرض إعلام دوت كوم، ضمن ملف خاص، احتفاء بطارق إمام، أبرز الأسماء التي كان وجودهم فارقا في مسيره:
– السيد إمام.. باب الإبداع الأكبر
لم يؤمن المترجم الكبير السيد إمام، بأن الإبداع من الممكن توريثه، لكنه كان مؤمنا بأن الحرية هي التي تخلق الإبداع، فقدم لابنه “طارق” الكثير من الحرية، وفتح له الباب على مصرعيه نحو المعرفة والاطلاع، ومحاولة فهم العالم.
يقول السيد إمام: “لاحظتُ شغف طارق الشديد بالمعرفة حتى من قبل أن يبلغ الخامسة. كان يوجه إلىَّ – أو إلى أمه- الأسئلة وحين كنا نراوغ فى الإجابة أو نرجئها يبكي ويظل متعلقاً بأذيالنا مردداً السؤال مرة تلو المرة متوسلاً إلى أن يحصل على إجابة تقنعه حد أنى ظننته يحتاج إلى علاج نفسى ما”.
جمعت إمام الكبير بابنه صداقة من نوع خاص، فكان يصطحبه منذ طفولته في أغلب جولاته، وحينما اشترى له الألوان اندهش مما رسمه على جدران شقتهم بالكويت، من رسومات سريالية فريدة، مما اضطره إلى دهان الشقة من جديد قبل تسليمها، كما أن مكتبته كان الباب الأهم نحو المعرفة وعشق الأدب بعد تعلم طارق للقراءة والكتابة. حتى بدأت موهبة الكتابة تعلن عن نفسها شيئا فشيئاً بالموازاة مع رسومه السريالية الرائعة، من خلال عمل مجلة للأطفال يتولى تحربرها من الألف إلى الياء تحوي قصصاً مصورة مسلسلة من تأليفه ورسمه، و نوادر ومسابقات وحكايات وفوازير وحكم. كانت المجلة تصدر أسبوعياً ويجرى تصويرها وتوزيعها على أطفال الشارع.
قدر الحرية التي قدمها السيد إمام لابنه وتوفير مناخ مناسب للأبداع كان المحطة الأولى والأهم في مسيرة طارق إمام الأدبية، وقدرته على النقد والتساؤل والتحليل.
– حلمي سالم.. مفتاح النشر الأول
يعد حلمي سالم أول من آمن بموهبة طارق إمام الأدبية، حيث نشره له أول قصة بعنوان “محاولة لاحتواء الضوء”، بمجلة “أدب ونقد”، والتي كانت إحدى أهم المجلات الثقافية، وذلك عام 1992، ولم يكن يتجاوز طارق حينها الخامسة عشر، لكنه وجد في كتاباته بذرة لأديب مميز، وعلى عكس الكثير من النقاد في ذلك الوضع لم ينظر إلى صغر سنه أو حداثته، بل اهتم بميلاد مشروع أدبي فريد.
ويقول طارق إمام عن حلمي سالم: “حلمي سالم هو شاعر تفكيك بامتياز. تبدو قصيدته لعبة دائمة من (الفك والتركيب)، (الاحلال والإبدال).. وهو ما يمنح نصوصه تلك الفداحة الجمالية التي جعلتها دائما مثيرة للجدل…”.
– ماكيز.. الأب الروحي
لم يكن جبريال جرسيا ماركيز مجرد أديب كبير يحبه طارق إمام، بل كان بمثابة الشيطان الذي يغوي “إمام” نحو الإبداع وعالم الواقعية السحرية، وغواية الحكي، وكان التحدي الأكبر لكتابة روايته “طعم النوم” والتي تتقاطع مع روايتي “ذاكرة غانياتي الحزينات” لماركيز، و”الجميلات النائمات” لكاواباتا.
ويرى طارق إمام أن تأثره بماركيز تهمة يعتز بها، وأنه يعشق كتاباته وتربى عليها، وأنه من ينتمي لسلالة ماركيز، وأن ذلك لا ينقص من قيمته ككاتب، وأنه على الرغم من أن الكثير يردد أن الواقعية السحرية ينتسب لأمريكا اللاتينية، إلا أن تراث الحكى العربي هو تراث سحري بالأساس يمزج بين الواقع والخيال مثل “ألف ليلة وليلة”، أما التقديم فلا علاقة له بالتأثر بماركيز من عدمه.
عناصر عدة تجمع بين كتابات “إمام” و أدب “ماركيز” أهمها الحديث عن الثنائيات كالموت والحياة والواقع والخيال والحلم واليقظة وغيرها، فضلا عن القدرة الاستثنائية في الحكي والبراعة في إدهاش القارئ.
– خيري شلبي.. آمن بموهبته من اللحظة الأولى
محطة هامة في مسيرة طارق إمام، ودعم كبير قدمه له الأديب الراحل خيري شلبي، والذي كان لديه إيمان شديد بموهبته وعبقريته الفذة، فحينما قرأ عمله الأول “طيور جديدة لم يفسدها الهواء” قال للمترجم السيد إمام نصا: “ابنك ده عبقري يا سيد”، وأصر على أن يناقشه في دمنهور عام 1996، وكانت واحدة من ليالي العمر بالنسبة لطارق إمام.
ويقول السيد إمام: “بعد انتهاء الندوة اتجهنا أنا وطارق اِلى مدينة فوة .أراد خيرى أن يزور المنزل الذى ولد فيه. اتجهنا إلى السوق الكبير ثم إلى “المسمس”. عبرنا حواري وأزقة كثيرة رثة متشعبة حتى وصلنا اِلى رأسِ حارةٍ بعينها . لاح لنا على البعد منزل قديم مهدم تجلس على عتبته امرأة ضامرة عجوز. وما أن لاح خيرى على البعد بهيئته المعروفة المميزة ، حتى فوجئنا بالمرأة العجوز تترك مجلسها أمام البيت و تركض نحونا فى خطوات متلهفة ثم تلقى بنفسها بين أحضان خيرى و هى تهتف: إبن خالى..إبن خالى. كيف تعرفت هذه السيدة عليه بعد انقضاء ما يربو على أربعين عاماً لم يزر فيها خيرى فوة و لو لمرة واحدة؟!. للدمِ لغةٌ لا نعرفها بالطبع بكى خيري، وبكت السيدة العجوز، وبكى طارق، وبكيت..”
لم يتوقف دعم خيري شلبي عند هذا الحد، بل امتد بعد ذلك لسنوات كان رهانه فيها على موهبة طارق إمام وقدرته العجيبة على التجريب، وقد تعرض “حكاء المهمشين” لانتقادات وصلت حد السب والطعن في نزاهته، بعد فوز طارق إمام بجائزة الدولة التشجيعية، والتي كان يرأس لجنة تحكيمها، وظل هو مصرا على رهانه على طارق.
رغم الاختلافات الكثيرة بين أسلوب ولغة طارق إمام وخيري شلبي، إلا أنه تعلم منه عدم التعالي، وعشقه للحكي، ويقول عن خيري شلبي: “لعل جزءاً من تفرّد عم خيري في الحياة، أنه لم يكن من سكان الأبراج العاجية مثل عدد كبير من مجايليه، كان بسيطاً، يتعامل «على راحته»، لا يختفي وراء قناع النجم، قليل الكلام، مضبوط الانفعالات، المتمرّس على صنع المسافات، كالكثيرين.. كان رجلاً تقوده عفويته وحسه”.لم يخطو طارق إمام نفس نهج أسلافه ممن تأثر بهم أو ساندوه في مشواره، بل على العكس شق لذاته طريقا جديدا، وأصبح صاحب مدرسة أدبية مختلفة، لكنه لم ينكر يوما فضل هذه الأسماء طوال مسيرته.