(1)
عندما عرفنا نانسي عجرم للمرة الأولى، عبر أغنيتها الشهيرة «أخاصمك آه» عام 2003.. وقتها، كانت الكتلة الأكبر من الجمهور رجالاً وشباب، يتطلعون لهذه الفاتنة وتصريحها البارز (كما أشياء أخرى): «أخاصمك آه.. أسيبك لا..»
على ناحية أخرى، كانت نانسي محل نقاش بين البنات والسيدات، استغراب، ترقب، مع قليل من الإعجاب..
أذكر أن زوجة صديق لي، منعته بشكل كامل من الاستماع لنانسي وأغانيها.. وكان الأمر غريباً، فالمتوقع أن يتم منع رجل من مشاهدة نانسي، لكن صديقي كان ممنوعاً أيضاً حتى من الاستماع لها، لسبب بدا لنا مجهولاً في ذلك الوقت..
في العام التالي 2004، تقدّمت نانسي خطوة جديدة وفارقة، بإعلان واضح ومباشر: «آه ونص»..
هنا، أصبح الأمر أكثر وضوحاً، الرجال يحبون نانسي، والنساء يبدو وكأنهن، على الضفة الأخرى..
نانسي، دون غيرها، تقول أشياء غير معتادة بالنسبة للرجال.. كل أغنية عبارة عن تصريح، (statement) كما تستخدم الكلمة عادة في السياسة والبيزنس.
بشكل واضح وصريح، تفصح نانسي عن أمور كثيرة، هي بالنسبة لنا، نحن الرجال، كانت في السابق مبهمة وغير مفهومة..
أخيراً فهمنا مسألة الخصام، وأنها لا تؤدي مباشرة للفراق (أخاصمك آه، أسيبك لا)، تمكننا من وضع تعريف دقيق للدلع، وكونه أهم ما تحتاجه الحبيبة في العلاقة العاطفية (آه ونص)، توصلنا إلى معلومة أن الطبطبة والدلع من طرف الحبيبة مسألة غير دائمة ولا مضمونة، وأنها ساعات بحالات، مرة تزعل، مرة تعطي حبيبها عينيها (يا اطبطب وادلع)..
بالنسبة للرجال، كانت نانسي كنزاً حقيقياً من المعلومات والأسرار النسائية، فجأة أصبحنا نفهم أمور كثيرة، فجأة وجدنا من معسكر النساء، البنات، الحبيبات، الزوجات، بل وحتى زميلات العمل، وجدنا متحدثاً رسمياً قادراً على وضع النقاط فوق الحروف، يتحدث بلغة مفهومة، وبتصريحات واضحة ومتماسكة وتبدو على قدر كبير من المسؤولية والموضوعية.
حتى أغنيتها الأخيرة، «ما تيجي هنا وأنا أحبك»، بالنسبة لأي رجل، صفقة عادلة ومقبولة جداً..
أنت: تيجي هنا..
أنا: أحبك..
حدث هذا في زمن جميل، كنا قبله، نحن الرجال، نعاني ونتألم.. فلما جاءت نانسي، وقالت كل هذا، أحببناها بصدق، شعرنا تجاهها بامتنان حقيقي، حتى إنها حين أصبحت سفيرة للنوايا الحسنة عام 2009، استقبلنا الخبر بارتياح وقبول وتأييد، فنواياها الحسنة أصابتنا كرجال بشكل مباشر.. لولا أغنية واحدة.. أنهت الحلم الجميل، وجعلتنا نعود إلى عالم الحقيقة المرة..
(2)
«في حاجات تتحس.. ولا تتقالش.. وإن جيت أطلبها.. أنا مقدرش.. ولو إنت عملتها بعد ما أنا.. أطلبها.. يبقى مينفعش» (2012).
يا إلهي، هذه خيانة كاملة مكتملة، هذه جريمة، ما الذي تعنيه الكلمات السابقة.
حاجات، يمكن الشعور بها لكن لا يمكن قولها، وحتى إذا تم قولها فإنها تفقد قيمتها؟!.. عندما سمعت الأغنية في المرة الأولى، توقعت أن تكون نانسي تعمل على إنتاج فوازير رمضان، أو تغني بلغة أخرى غير العربية.. بالنسبة لي، لم أتمكن من فهم حرف واحد من هذه الأغنية.
وكما هو متوقع، ولعلك عاصرت ذلك بنفسك، انتشرت الأغنية فجأة، بدعم نسائي غير محدود، فجأة أصبحت الأغنية نغمة موبايل نسائية، بل حتى نغمة يسمعها كل متصل على رقمها مجبراً.. 10 ملايين مشاهدة على يوتيوب..
وفجأة، تحوّلت كلمات الأغنية المبهمة، إلى شعار كل فتاة، تقولها لشريكها / حبيبها / خطيبها / زوجها / زميلها في العمل، بل وسائق التاكسي إن لزم الأمر.. في حاجات تتحس، ولا تتقالش.. دون أن تكون لدينا (نحن الرجال) أدنى فكرة، عن ماهية هذه الحاجات وأهميتها وعلاقتها بنا..
ثم، كما الأمور كلها، تطورت المسألة، لتجد علاقات عاطفية كان يبدو وكأنها قوية، تنتهي فجأة، ويصادف ظهور الأغنية أو بعض كلماتها خلال المراحل الأخيرة في الوداع، سبتوا بعض ليه؟.. أصل في حاجات تتحس ولا تتقالش!.
هكذا، تخلت نانسي عنا جميعاً، عن كل الرجال الذين كانوا يستمعون لها بإنصات واحترام وتقدير، بالنسبة لبعضنا كانت أغاني نانسي لها ذات أهمية خطابات جمال عبد الناصر إلى «الإخوة المواطنين» في الستينيات.. كلها إفادة، معلومات حقيقية عن البنات أغرب الكائنات.. لكن!، الحلو ميكملش، لأننا فجأة اكتشفنا أن في حاجات تتحس ولا تتقالش!.
(3)
بالنسبة للرجال، بشكل عام، لا يوجد شيء يمكن الشعور به دون قوله.. كل الأشياء صالحة للتعبير عنها، حتى أكثرها خصوصية وغرائبية ولا معقولية.. كل شيء له مقابل في اللغة.. بل إنه بالنسبة لنا، لا يوجد معنى حقيقي لكلمة «حاجات»، الكلمة أساساً مبهمة، ما المقصود تحديداً بالحاجات؟.. هناك دائماً كلمة ما تائهة، كان يمكن أن نستخدمها، استبدالها بالحاجات مجرد استسهال لا أكثر.
ثم، لو أن المقصود بالحاجات كما تقول الأغنية بعد ذلك هو «غير كل طريقة حبك ليا»، و«مقدرش أقولك شكل حياتنا اللي أنا عايزاه» فبصراحة مطلقة، لا أعرف تحديداً ما المشكلة في قول ما سبق بشكل مباشر.. الرجل أساساً سيكون ممتناً جداً لو أن حبيبته أخبرته بشكل واضح عن طريقة الحب التي تفضلها، أو شكل الحياة التي تريدها، بالنسبة للرجال، الحب هو الحب، والحياة هي الحياة، لا أشكال ولا أنواع، مجرد أمور ربنا خلقها ونتعامل معها بشكلها المتاح، بطبيعتها التي وجدناها عليها.. وبالتالي، لن نمانع كثيراً لو أن هناك طلبات وأوامر واضحة، بشكل أو نوع معين..
الرجل، بشكل عام، يبحث ويفتش ويسعى للراحة، روقان البال، هدوء الأعصاب، يسعى لفعل كل شيء وأي شيء حيث يجلس مع عقله فارغاً من أية مسائل معقدة، تخص العمل، البيت، الأولاد، الدولة، كوكب الأرض.. لهذا ابتكر الرجال المقاهي، يجلسون فيها يومياً لساعات طويلة لممارسة هوايتهم المفضلة في فعل اللاشيء على الإطلاق.
وبخصوص المرأة في حياة الرجل، فهو يحمل لها كل الأمنيات الطيبة، يسعى للبقاء عليها في حالة سعادة دائمة، لسبب أساسي هو، أنها لو شعرت بالسعادة والرضا فإن هذا سيوفر له مزيداً من الراحة وروقان البال والفراغ.. نعم، الرجل يحب الفراغ، يعشقه، يحن إلى اللحظات التي عاش فيها في العالم وحده كآدم قبل أن يخلق الله له حواء.. هذه اللحظات بالنسبة إليه هي الجنة الحقيقية، وهو يحن لها باستمرار رغم علمه وتأكده من أنه يعيش على كوكب الأرض.
وبناء على ما سبق، فإن أسوأ ما يمكن مواجهة رجل به هو الطلاسم، المسائل المعقدة التي تحتاج إلى تفكير عميق. فهو، وإن كان يحب الفراغ، لكنه يمل بسرعة نتيجة فعل أي شيء لا ينتهي بسرعة.. وحل الطلاسم وفكها يحتاج إلى وقت طويل كما يبدو.
الرجل لا يفهم جملة لها أكثر من معنى، المعاني المزدوجة، الـ double meaning، بالنسبة لنا عبارة عن نكات بايخة، مزيد من الوقت المهدر في فعل أشياء مملة.. أقصر طريق للرجل ليس معدته، أقصر طريق هو إخباره مباشرة بالمطلوب، وسيرد خلال دقيقة واحدة، بما هو قادر على فعله، وما هو عاجز عنه.
الرجل، أصلاً، فنان محترف ومتمكن في مسألة المسافة الفاصلة بين الكلام والمشاعر، لكنه على العكس تماماً، يؤمن أن هناك الكثير مما يمكن قوله دون أن يكون هذا القول ناتج عن شعور حقيقي داخله.. معظم الأشياء التي يقولها الرجال نابعة من الفراغ داخلهم، الكسل، الملل المحتمل لو أنهم اجتهدوا في قول الأشياء بعد أن يشعروا بها.. الرجال يعبرون عن حبهم بسرعة لأنهم لا يملكون ترف أو قدرة انتظار أن يكون الحب شعوراً حقيقياً.. المشاعر تأتي بالنسبة للرجل بعد الكلام.. هذا إن جاءت أصلاً.
بل، إن الحقيقة الأكثر مراراً مما سبق، أن الرجل لو أفصح عن مشاعره الحقيقية التي يشعر بها تجاه حبيبته أو شريكته، فإن الحياة بأكملها ستنهار خلال ساعات.. فمشاعرنا الحقيقية الفجة، مرة، مفزعة، قاتلة، بالنسبة للكائنات الجميلة المعروفة باسم «البنات»، لذا، نحب الصمت، نقدره، نحترمه، ونقول كلاماً كثيراً لا يعبر بالضرورة عما نشعر به!.. هذا إن كنا نشعر أصلاً.
(4)
عزيزتي نانسي، تقولين في «حاجاتك» التي يمكن أن تتحس دون أن تقال، مخاطبة حبيبك: «متوصلنيش.. يا حبيبي أقول.. يا ريتني اتكلمت»..
وللأسف الشديد، سأصارحك، أن هذه الجملة تحديداً هي الهدف الأساسي لكل رجل على كوكب الأرض.. لا يوجد بالنسبة للرجل أفضل من كلام مفهوم من حبيبته له معنى واحد واضح محدد مقصود ويشبه تصريحات وزارة الخارجية الأميريكة في تقريرها الأسبوعي.
حتى وإن كان الكلام الذي يمكن أن تقوله الحبيبة سخيفاً، لا بأس، لدينا قدرة على الاحتمال والصبر، المهم أن يكون مفهوماً، خالياً من «الحاجات» عموماً، مباشراً، ينتج عنه فعل نقوم به سريعاً، حيث نعود فوراً بعد الانتهاء منه إلى مكاننا المفضل في الفراغ الدائم في انتظار نهاية الحياة البشرية على الكوكب للعودة إلى الجنة التي كنا فيها وحدنا أصلاً قبل كل شيء.
عزيزتي نانسي، حاجاتك التي تحدثتي عنها أنهت علاقات كثيرة، دمرت مشروعات عاطفية بل وزيجات كاملة، سنتجاوز الأزمة، سنتحمّل.. لكن، نرجوكي، في المرة القادمة، أخبرينا بأي شيء آخر.. بعيداً عن الحاجات والطلاسم.