يوسف الشريف
منذ سنوات وكلنا نتابع الأحاديث المتداولة عن أزمة الصحافة في مصر، وكيفية الخروج من هذه الأزمة، وهل نحن في عصر احتضار أو موت الصحافة؟ ومتى بدأت أزمة الصحافة؟! وهل كان للصحافة فترة ذهبية حقًا؟!
كثير من علامات الاستفهام التي تدور بلا إجابة، حول مستقبل “صاحبة الجلالة” أو الصحافة، وفي ثلاثية “الملك والكتابة” الصادرة عن دار ريشة للنشر والتوزيع، للكاتب محمد توفيق، يتتبع الكاتب مسار الأزمة الحقيقية للصحافة في مصر، ويعود بالقارئ إلى فترة ما قبل دخول المطبعة إلى مصر مع الحملة الفرنسية، ليشرح ويحلل أزمات الصحافة ودور الصحافة عبر التاريخ وعلاقتها بالحاكم والسلطة.
ومن أهم ما في الثلاثية بجانب السرد والأسلوب الممتع والشيق للكاتب، هو المزج بين تاريخ الصحافة وظهور المؤسسات الصحفية وإعلام الصحفيين والمثقفين، وبين الأحداث التاريخية التي تحدث في الشارع المصري.
يبدأ الجزء الأول والمعنون “جورنال الباشا” في سرد مراحل ظهور الصحافة في مصر بداية من الفترة 1798 ودخول الفرنسيين إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت ومعه المطبعة، لتصدر جريدة “العشرية المصرية” والتي أراد نابليون عن طريقها تخليد أعماله الثقافية والفنية في مصر، ولكن اللافت للنظر أن نابليون هو أول من قال: “إن الحاكم يجب عليه دائمًا أن يستغل الصحافة لمصلحته، ويجعلها في خدمته”.
ثم ننتقل إلى فترة محمد علي، وتأسيس جريدة “الوقائع المصرية” لنعرف كيف كانت ثقافة أغلب المصريين في تلك الفترة، بين مؤيدين كثر لفكرة أن المطبعة محرم استخدامها لأنها من صنع الكفار، ثم ظهور العظيم رفاعة الطهطاوي على مسرح الثقافة في مصر وكيف تغيرت أفكاره، من الأفكار الرجعية المتشددة التي كانت تسود مصر في تلك الحقبة إلى الأفكار التقدمية المستنيرة التي أعتمد عليها محمد علي في تأسيس نهضته بالبلاد.
ولكن يجب أن نتوقف هنا لنشير إلى شيء هام وهو أن من ضمن الأشياء التي لفتت نظر رفاعة الطهطاوي أثناء سفره إلى فرنسا هو أنه رأى بعض الصحف التي تنتقد وتسخر من ملك فرنسا تباع بالقرب من قصر الحكم دون أن يعترض أحد على ذلك، ودون أن يتعرض بائع الصحف للاضطهاد.
يشرح هذا الجزء من الثلاثية أبرز الأحداث التي وقعت في عصور كثيرة من حكام مصر من سلالة محمد علي لينتهي عند سنة 1899، لنتعرف على بعض الأحداث التاريخية التي حدثت، وتدهور الأوضاع التي أدت بعد ذلك للاحتلال في عصر إسماعيل وقيام الثورة العرابية، وتغير الفكر والثقافة المصرية، بل وحركة الثقافة المصرية مع ظهور صحف أخرى مثل الهلال والأهرام والمقطم، ورواد الثقافة في تلك الفترة لنرى أسماء مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده الذي قال: “لقد كمم الطغاة أفواه الناس لدرجة أنهم لم يستطيعوا مناقشة أي موضوع خوفًا من أن يتعرضوا للاتهام بالكفر أو الزندقة أو العيب في ذات الحاكم”.
وربما قول الإمام محمد عبده هذا يجعلنا نعلم أن أزمة الثقافة والفكر والتي نعاني منها حتى اليوم في مصر لها جذور عميقة، يكمن جوهرها في التعصب الأعمى الذي يتملك البعض، والذي يجعلهم يكفرون كل مخالف لهم في الرأي وكل من يتفوه بفكرة غير معتادة. وبالتالي كان يستخدم بعض الحكام هذه الحالة الثقافية والفكرية المتردية في تقوية نفوذهم الاستبدادية.
من هذه النقطة ننتقل إلى الجزء الثاني “حب وحرب وحبر” لنرى الحرب التي دارت بين الإمام محمد عبده الذي كان يريد تغيير المناهج وطرق التدريس المتأخرة الرجعية في الأزهر وبين رجال الدين المحافظين والرجعيين والمستولين على المؤسسة الأزهرية والذين أغلقوا ملف التجديد والتطوير في هذا الوقت.
ونرى أيضًا مفتتح جريدة “السفور” التي كانت جديدة في تلك الفترة من العام 1915، والذي قيل فيه أن ليس فقط النساء في مصر هم المحجبات والمحتجبات بل نحن مجتمع محجب نتظاهر بالفضيلة والود ولكن حقيقتنا النفاق.
وفي نفس الفترة نرى ظهور أسماء جديدة على مسرح الثقافة المصرية مثل عباس العقاد وطه حسين والمنفلوطي ومصطفى عبد الرازق وغيرهم، مع ظهور صحف جديدة، وحركات عنيفة على مسرح الأحداث السياسية، في بلد محتلة يحاول المحتل فيها تسخير كل شيء لإعلاء كلمته، فيستخدم الجهل والرجعية والتخلف لقمع كل حركات التقدم التي كان يحاول البعض القيام بها.
ونرى أيضًا بعض التفاصيل حول ثورة 1919، وظهور أسماء جديدة في عالم السياسة، وصولا إلى صعود الأمير المراهق فاروق الأول ليصبح ملك للبلاد، وتغيرات أخرى تحدث في المجتمع بل في المنطقة العربية بالكامل مع ظهور العدو الصهيوني المحتل وحرب فلسطين التي تنتهي بهزيمة العرب.
ثم يبدأ الجزء الثالث “قصة الصحافة والسلطة في مصر” بأهم حدث في تاريخ مصر الحديثة وهو ثورة يوليو 1952 وعزل الملك، والخلاص من الاحتلال، وظهور عبد الناصر على مسرح الأحداث، ومحاولات للتغيير على المستوى الثقافي بسبب اهتمام عبد الناصر بالصحافة والسينما ومحاولة الاحتفاء بالفن والأدب، وفي نفس الوقت نرى محاولات عبد الناصر للخلاص من أعداء داخل البلاد تتمثل في جماعة الإخوان المسلمين الذين حاولوا اغتياله، وأعداء في الخارج يحاولون كبح أحلام ناصر وعرقلته في العدوان الثلاثي، ومناخ مساعد لظهور واحد من أهم الصحفيين في تاريخ مصر وهو الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل. ثم النكسة وسفر أم كلثوم لتغني في فرنسا وتتبرع بمبلغ ضخم لصالح المجهود الحربي.
وهنا يمكن أن نتوقف لنرى أهمية الفن والثقافة في عصر عبد الناصر، بداية من السينما التي كانت تحتل المراتب الأولى في مصادر الدخل القومي المصري، وإلى أم كلثوم التي ساعدت بلادها وجيشها الوطني بمبلغ ضخم للغاية، بل نرى أيضًا مدى التحول الكبير الذي حدث في مصر على كافة الأصعدة والمستويات.
ليتراجع دور الثقافة وتنحصر حركة الفن مع قدوم الرئيس السادات وتحديدًا بعد انتصار أكتوبر، حيث الإفراج عن عدد كبير من السجناء الذين كانوا ينتمون إلى تيارات الإسلام السياسي المختلفة.
فخرج هؤلاء السجناء إلى الشارع المصري ليغيروا في شكل الثقافة التي تكون بعضها في عهد ناصر، ويشكلون خطابا سياسيا ودينيا جديدا، قائما على العنف والكره والتكفير، لينتهي كل ذلك باغتيال الرئيس الذي أطلق على نفسه الرئيس المؤمن والذي سمح وأسس لوجود عناصر تنتمي إلى جماعات الإسلام السياسي وهو الرئيس السادات الذي انتهت حياته على يد أحد الإرهابيين المنضمين لتلك الجماعات المسلحة التي كان يرعاها وفي نفس اليوم الذي كان يحتفل فيه بأهم إنجاز له.
ليصعد نائبه حسني مبارك ليكون رئيسا للجمهورية ولكن مبارك بالرغم من كل شيء، كان لا يستطيع التعامل مع تيارات الإسلام السياسي التي ترعرعت وتوحشت في عهد السادات بشكل حاسم وقاطع، ولذلك ظل تهديد الفنانين والأدباء موجود وتم اغتيال المفكر فرج فودة، ومحاولة أخرى لاغتيال نجيب محفوظ.
مما أضاف أعباء جديدة على كاهل الثقافة والفن وبالتأكيد الصحافة التي أخذ ينحصر دورها، في عدد من المحاولات الفردية لإقامة صحف مناهضة لوجهة نظر السلطة والفكر الذي أخذ يطفو على سطح العقل المصري، ويسود، ولكن سريعًا ما كانت الدولة وقتها تحاصر هذه الصحف بل وتقبض على رؤساء تحريرها.
هكذا يلخص الكاتب كل ما حدث في تاريخ مصر الحديثة بداية من دخول الفرنسيين مصر وحتى عصر مبارك، ليسرد تاريخ صاحبة الجلالة الصحافة، وتاريخ حركة الثقافة المصرية وأعلام كل مرحلة من المراحل، ومدى تغير وتأثر العقل الجمعي المصري بكل مرحلة، وحركة السياسة داخل مصر.
ولكن أهم ما تطرحه هذه الثلاثية هي إشكالية الصحافة في مصر، وأن في حقيقة الأمر أن الصحافة تعاني ليس فقط منذ سنوات قليلة، بل منذ ظهور الصحافة في مصر بشكل رسمي في عهد محمد علي، بل هناك عناصر عديدة ساعدت في تدهور الصحافة في كل عصر، وثمة عنصر وحيد يبدو وكأنه أهم هذه العناصر وهو عنصر الحرية. أي يكون الكاتب والصحفي يملك وحده حرية الرأي والإبداع.
ونقطة أخرى يجب التوقف عندها وهو أن الثلاثية تجعلنا نتوقف أمام أبرز الأحداث التي وقعت في تاريخنا المعاصر، لنقرأها قراءة موضوعية شاملة تجعلنا نحلل كل الظروف التي دفعتنا إلى تلك اللحظة الراهنة، وجذور تلك المشاكل التي نعاني منها اليوم، بل وطرق الخروج من تلك الأزمات التي تهدد مصر عبر العصور، فقراءة التاريخ بكل تأكيد مفيدة ونافعة بالتحديد حين نقرأ بموضوعية ودون تعصب للبحث عن الحلول والسبل التي بها نستطيع البناء في الحاضر والتقدم في المستقبل.