نضج الفنان طارق لطفي كثيراً، فهو خريج المعهد العالي للسينما في ثمانينات القرن الماضي والذي بدا خجولاً أوّل ما ظهر، غير واضح المعالم كمؤدٍ، بات اليوم علامةً من علامات التطوّر في الدراما المصرية وصنعته “الكاركتر”.
في مسلسل “جزيرة غمام“؛ أثبت الممثل المصري الماهر أنّه يستطيع أن يؤدي دور “الشيطان” بذات الحرفة التي أدها بها آل باتشينو في “devil’s advocate”. نعم والحق يقال لقد برع لطفي في أن يقدّم “شيطاناً” مشرقياً، مخيفاً في كل لحظات المسلسل: إنه شيطانٌ متيقن من انتصاره، مستعد أن يخوض كل الصراعات، ويقطع كل القوانين والقواعد بهدف الوصول إلى ما يريده، وما المشهد الختامي من المسلسل، وإصرار صنّاع العمل على الاستعانة به مرةً أخرى – أي عودة طرح البحر إلى الجزيرة من جديد- إلا إعترافٌ بمهارته، كما بدور الشيطان الذي لا ولن ينتهي دوره في الصراع الأبدي بين الخير والشر.
في صنعة الكتابة، كما في الدراما حكماً، يجب أن يكون الشرير قوياً، مبهراً، خارقاً، صادماً، لأنه إن كان ضعيفاً، حائراً، سخيفاً، أثر ذلك على انتصار البطل، وحوّل تلك المعركة إلى معركةٍ محسومةٍ سلفاً. بالتالي يفقد البطل تعاطف الجمهور، وسرعان ما سيحبون الشرير ويفضلونه على البطل. ذلك الأمر حدث غير مرةٍ مع تفضيل المشاهدين للشرير الذي يلعبه ممثلٌ قدير وماهر مثل فريد شوقي، أو عادل أدهم، أو محمود المليجي على البطل “الخيّر” الذي يلعبه أحد “نجوم” السينما وسيمي الشكل، مفتولي العضلات.
لقد كان الشرير أكثر “قوةً” ويحتاج “مراساً” ومهارةً في تقديم “شرٍ” منطقي مقبول، فيما لم يحتج الأبطال إلا لشكلهم وابتسامتهم في كثيرٍ من الأحيان. بذل المليجي/شوقي/أدهم الكثير لتقديم شريرٍ يرتكن إليه، وينظر إليه بخوفٍ: إذ تكفي نظرةٌ واحدةٌ من عادل أدهم لخلق شعورٍ غير مريح في نفس البطل والمشاهد في آنٍ معاً؛ ماذا عن طريقة نطق “المليجي” لأية جملة؟ ماذا عن سخرية توفيق الدقن؟ وشكيمة فريد شوقي واظهاره لسطوة “الشرير”؟ ماذا عن جميل راتب وفلسفته في “الكيف”؟ كل هذه التفاصيل كانت المدرسة التي رجع إليها طارق لطفي لخلق شريره الممتاز “خلدون” في “جزيرة غمام”. لقد كان شريره متفوقاً في جميع الأصعدة على جميع أبطال المسلسل، لقد كان يكسر أية شخصية يؤدي أمامها، حتى وهو في أقصى لحظات استكانته. لقد كان طارق ماهراً إلى الحد الذي جعل المشاهد ينتظر حضوره إلى الشاشة، ليكرهه، ليمارس كل ما في صدره من مشاعر سلبية تجاه أي “شرير” يعايشه يومياً. لهذا الحد كان لطفي ناجحاً.
عانى لطفي عند بداياته، هو حتى شارك في فيديوكليب “شنطة سفر” للمغنية أنغام، بعدها عاد وعرف طعم الشهرة مع “صعيدي في الجامعة الأميركية”، يومها لم يكن النجم الأوحد، لكنه بالتأكيد حجز مكاناً له ضمن تلك الموجة الشبابية. لكن تلك لم تكن البداية الحقيقية، على الرغم من مشاركته في العديد من الأدوار المهمّة. كان خلدون طرح البحر، هو البداية المدهشة فعلياً لطارق لطفي كما يستحق وكما يجب أن يكون. إنه شريرٌ بالمقاس؛ راقبوا هذا النقاش مع “بطلان”(يؤدي الدور الممثل الموهوب محمود البزاوي) حينما يشتمه “بطلان” بأنه “إبن المركوب”، ليجيب خلدون بكل هدوء وفلسفة مكانية: “وماله المركوب، من غيره تبقى حافي”، هو يعرف أن التوصيف إهانة، لكنه لايرى في الأمر إهانة إن كان يحقق له الهدف. في نقاش آخر مع “العايقة”(تؤدي الدور بمهارة مي عزالدين) يقول لها بأنها زوجته لأن الرجال يحبون “أن يأخذوا ما ليس لهم، وخصوصاً زوجة رجلٍ آخر”، إنه يعرف لعبته، وحرفته: إنه شريرٌ مدركٌ لما يؤديه، ولا يرى أن ما يفعله شراً، بمقدار ما هو “ضروري” لتحقيق أهدافه. هو لايخاف أن يذل نفسه، أو يتعرض للتقريع أو اللوم، أو حتى ارتكاب المحرم أو المرفوض: لا شيء محرّم بالنسبة له. كاتب المسلسل الماهر للغاية عبدالرحيم كمال قدّم الشيطان في مسلسله السابق “ونوس” مع المبدع يحيى الفخراني، لذلك هو يجيد تقديم “الشر” المركّب، فونوس شأنه شأن خلدون شرٌ مركبٌ واعٍ وليس مجرّد شر “كاريكاتوري” كشرشبيل من مسلسل السنافر. هنا نأتي إلى تفصيل ما أضافه لطفي للشخصية: استخدام صوته بهدوءٍ بالغ حال احتياجه، طريقة تنفسه الخاصة بحيث أن كل “زفرة” هواء تجعل ما في قلبه ثقيلاً أو خفيفاً بحسب حاجة المشهد، وفوق كل هذا حركة جسدٍ تشعر المشاهد بأنه حقيقي إلى أبعد حدود، إذ يكفي مثلاً مراقبة حركته حينما طلب من الأطفال أن يشاركوه الغناء لكي يفضحوا الشيخ عرفات (الماهر والموهوب أحمد أمين): “العايقة والشيخ عرفات دخلوا الأوضة وقفلوا الباب”. حركة جسده بالاضافة لصوته ومهارته، جعلا المشهد صادقاً إلى أبعد حد.
نعم، يمكن القول وبالفم الملآن أن طارق لطفي كان “وريثاً” شرعيا لجيلٍ من أشرار الدراما العربية. كان قادراً على أن يكون “الشرير” الذي لا يخافه البطل فحسب، بل المشاهد أيضاً. هو بذل مجهوداً ظاهراً مكن المسلسل من أن يكون واحداً من أفضل مسلسلات هذا العام. يستحق لطفي بعد هذا الدور أدواراً أكبر ومساحاتٍ أوسع، لأنه لديه الكثير والكثير ليقدمه بعد