عادل غنيم
أسماء شكري
إذا حالفك الحظ وحضرت معه إحدى الجولات الأثرية، ستجده نشيطا أكثر من جمهور الجولة من الشباب بالرغم من أنه في عمر والدهم، يجلسون هم كلما سنحت لهم الفرصة ويظل هو واقفا بدون كلل؛ يشرح تفاصيل العمارة لكل أثر، يستقبل أسئلة الزوار بصدر رحب ويجيب عنها باستفاضة، هو د. عادل غنيم خبير واستشاري الآثار الإسلامية والمسيحية واليهودية ومدرب الإرشاد السياحي.
تفرّد “غنيم” عن غيره من رواد جولات الآثار بتركيزه على شرح العنصر المعماري أكثر من شرح تاريخ الأثر، فالتاريخ يمكن أن يُقرأ بسهولة ويُفهم من الكتب، أما جمال العمارة وفنونها وزخارفها وإبداعها فهذا هو الأمر الأصعب، كما أنه يشرح المعلومة بشكل مبسط وبألفاظ دارجة قدر المستطاع، حتى يكون سهلا فهمها على الهاوي قبل المتخصص، ويعلن عن جولاته عبر صفحته على فيسبوك واسمها عاشق تراثك يا مصر.
وفي هذا الحوار تحدثنا مع د. عادل غنيم عن تفاصيل رحلته مع الآثار التي امتدت لـ 41 عاما، قضى أغلبها في شوارع مصر يتنقل من أثر للآخر، كما شارك في العديد من مشاريع ترميم وصيانة الآثار ودرّب مئات الطلاب والمرشدين السياحيين، فإلى تفاصيل الرحلة..
– تخرجت في كلية الآثار بجامعة القاهرة دفعة 1982، وبدأت العمل الأكاديمي والميداني بالآثار منذ عام 1984، وحصلت على رسالتي الماجستير والدكتوراة من جامعة إسطنبول عن منشآت السلطان بايزيد الثاني والذي يعادل تاريخيا في مصر مكانة السلطان قايتباي، ثم بدأت تدريب المرشدين السياحيين في كافة معاهد وكليات الإرشاد السياحي حتى عام 1997؛ وبعدها عملت استشاريا في ترميم الآثار وإعداد المشروعات البحثية الخاصة بمشاريع الترميم، ثم استشاري آثار إسلامية لمؤسسة الإنتاج البرامجي لدول مجلس التعاون الخليجي.
– تربيت في منطقة أغا شبرا في القاهرة ولكن العائلة أصلها من محافظة الغربية، والدي هو محمد غنيم وكان يعمل مستشارا بمحكمة النقض، وأغلب أفراد عائلتي يعملون في السلك القضائي والشرطة، وكان اقتراح والدي أن ألتحق بكلية الحقوق لأكمل المسيرة، ولكن عشقي للآثار دفعني لدراستها والتخصص فيها.
– والدي كان مولعا بالآثار فتأثرت كثيرا به، ومنذ صغري تبحرت في القراءة في هذا المجال فزاد شغفي، وعندما كنت في أولى ثانوي قررت أن أدرس الآثار في الجامعة، لكي أكمل شغفي بالدراسة الأكاديمية، وتدرجت في عملي بوزارة الآثار حتى وصلت إلى درجة وكيل وزارة.
– كثيرون وأبرزهم د. أحمد قدري و د. فريد شافعي و د. حسن الباشا و د. حسني ويصا و د. مصطفى نجيب: “كل واحد حط بصمة وأنا لميت كل ده وأضفت من عندي.. مدرستش الآثار عشان أخد الشهادة وأقعد لا؛ أنا في الشارع وبطلّع كل اللي عندي”.
– أولا بحبي للمجال، وثانيا بكثرة القراءة والاطلاع والزيارات الميدانية مع الممارسة آلاف المرات، والأمر صعب ولكن بالنسبة إلي كان سهلا “لأني حابب الموضوع فأخدته كتحدي”، وأنا عاشق لتراثنا وبلدنا وخاصة التراث الإسلامي لأنه مهمل، ودوري أنا وأمثالي إبراز كل ما أبدعه الفنان المسلم، وحتى الآن اطلعت على 3000 مبني تراثي منهم 1600 مسجل كأثر والباقي غير مسجل للأسف.
– يجب ألا يقتصر عملهم على الجلوس في القاعات وعلى المكاتب وإنما النزول للشارع، فالتاريخ يُقرأ ويُحفظ أما العمارة والفنون فلا بد أن تبرز جمالها وتشرحه وتستخرج سماته، وقد كنت من الرعيل الأول الذي استخرج السمات الفنية لآثار وعمارة كل عصر: “تعبت قوي عشان أطلعه وبديه للزوار بشكل مبسط”، ولا أخجل من تصحيح المعلومات الخاطئة حتى وإن كانت متداولة لسنوات، فالمهم عندي هو التدقيق في توصيف المعلومة مهما كانت بسيطة وأيا كانت شخصية صاحبها.
فمثلا صححت بعض ما أورده المؤرخ المقريزي في كتاباته، فكل ما يمكن تفنيده وإخضاعه للمنطق أحرص على تنقيحه وتصحيحه، ولو لم أكن متمكنا من مادتي العلمية لما كنت فعلت ذلك بكل ثقة، فهناك مؤرخ قديم اسمه ابن شداد كتب أن أقدم نموذج لـ “القُصعة” موجود في حجر مدخل المدارس الصالحية، وذهبت بالفعل فوجدتها ولكني اكتشفت بالبحث أن هذا خطأ، وأثبت أن أقدم نموذج لـ “القُصعة” موجود في حجر مدخل مسجد الإمام الشافعي.
– منشآت قلعة صلاح الدين وميدان القلعة والمحمودية وجامعي السلطان حسن والرفاعي، وقرافة المماليك خاصة خانقاه ومدرسة السلطان فرج بن برقوق، وكنت استشاريا لشركات الترميم التي عملت تحت مظلة إدارة القاهرة التاريخية في التسعينات والألفينات، وأبرز مشروعاتها كان ترميم آثار شارع المعز وتطويره، وآثار كثيرة في شارع باب الوزير، كما شاركت في مشروع ترميم مسجد المؤيد شيخ المجاور لباب زويلة.
– لدينا في مصر من أبدع بل أجمل وأبدع آثار الدنيا، تحتاج فقط إلى صيانة وترميم واهتمام بقدر أكبر، وأطالب بترميم وصيانة الآثار بشكل دوري ومستمر لنحافظ عليها، كما ينقصنا التسويق بشكل أقوى لآثارنا، وقد أعددت منذ سنوات قائمة تضم 119 أثر في حاجة ماسة لترميم عاجل وسلمت القائمة لوزارة الآثار، فأرجو الاستجابة لطلبي وسرعة ترميم تلك الآثار للحفاظ عليها من الفناء.
– أنا ضد شطب الأثر أو هدمه تحت أي سبب، وقد حدث هذا للأسف كثيرا لبعض آثارنا المصرية، أبرزها محطة القطار الملكية الخاصة بالملك فؤاد بكفر الشيخ، وهدم برج أسوان والمقابر الفاطمية، وسقوط بعض الآثار بسبب سوء الترميم مثلما حدث في قبة رقية دودو، وضد إهمال ترميم بعض الآثار مثل جامع الملكة صفية، وللأسف نسبة الاستجابة لحملات ترميم وإنقاذ الآثار التي تبنيتها لا تتجاوز 1%.
ومن أبرز الحملات التي تبنيتها وتمت الاستجابة لها وإنقاذها بالفعل، كان الجدار الجنوبي الغربي لممر السلطان قلاوون، وبعض الآثار تم ترميمها مرتين “وفيه بتحتاج أكثر زي قصر محمد علي بشبرا وقبة أولاد الأسياد بالسروجية”، وهناك آثار تحتاج إلى ترميم سريع مثل قصري الجوهرة والأبلق وسرايا العدل بقلعة صلاح الدين، ونحتاج إلى نهضة في الترميم وألا نغلق أثرا تم ترميمه حتى لا يتهدم، ويجب إعطاء أولوية الترميم للأثر الآيل للسقوط قبل غيره.
– بدأت الجولات منذ عام 1984 ومستمر فيها حتى الآن، وأشرح فيها الآثار لطلبة المدارس والجامعات وعامة المواطنين وأيضا للأجانب، كما قدمت محاضرات خاصة بالإرشاد السياحي، وأعددت أول ملزمة تشمل المزارات السياحية الإسلامية وسلمتها لنقابة المرشدين السياحيين، ودرّست الإرشاد السياحي في الجامعة لمدة 13 عاما متواصلة: “باخد الطلبة وبنزل الشارع”.
وبدأت جولات الآثار منذ سنوات طويلة ولم تكن وسائل الاتصال وقتها متاحة وسهلة كالآن، فكنت أحدد مكان وموعد الجولة وينتشران من خلال الناس الذين يبلغون بعضهم بعضا حتى نلتقي ونقضي الجولة.
وتطور الأمر مع انتشار المحمول الذي سهّل التواصل أكثر وكذلك الإنترنت، وجمهور جولاتي من أغلب المحافظات يأتون لسماع شرح الآثار، وقبل تنظيم الجولات كنت من أقدم الأثريين الذين قدموا شرحا للآثار من خلال برامج عدة للتلفزيون المصري، أبرزها برنامج ألف باء مصر مع الإعلامية نجوى إبراهيم في الثمانينيات.
– أدعو وزارة الشباب والرياضة بالتعاون مع وزارة الثقافة لتبني حملة لتوعية الشباب المصري بقيمة تراثنا المعماري والأثري، وسأساهم بالشرح بدون مقابل لهؤلاء الشباب، على أن يتم تنظيم تلك الحملات داخل مراكز الشباب وقصور الثقافة.
وقد أطلقت تلك الدعوة أكثر من مرة في حوارات ولقاءات عديدة، فيجب أن تخصص وزارة الشباب جزءا من ميزانيتها لتطبيق تلك الحملة: “مش رحلة الأقصر وأسوان كل سنة وهي دي بس! رحلات القاهرة تحفة، اللي تحسس الشاب يعني ايه أثر”، فالحفاظ على الآثار يبدأ من الوعي، إن لم ننمي الوعي الأثري ستضيع الآثار، كما أن للجامعات دور أيضا في تثقيف الشباب أثريا عن طريق الرحلات الأثرية.
وأدعو لوضع الآثار كمادة بدءا من مرحلة التعليم الأساسي وحتى الثانوي يدرِّسها شباب الأثريين بالتعاون مع وزارتي الآثار والتربية والتعليم: “هتبقى ألف باء آثار حاجات بسيطة ومش صعبة.. وأنا هتبرع بوضع منهج الآثار الإسلامية مجانا وهدرّب الناس اللي هتدرّسه” ويكون اسمها مادة الآثار المصرية، فقد دربت العديد من المرشدين السياحيين والأثريين: “لما ندرس آثارنا من صغرنا هيطلع النشء متربي على حب الآثار وهيبقى أب بعد شوية ويحافظ عليها ومش هنشوف حد بيتعدى على أثر”.
– لدي ولد وابنتين، لم أوجه أحدا منهم لخوض المجال، ولكن الابنة الكبرى “مروة” كانت شغوفة بالآثار وقررت من تلقاء نفسها دراسة المجال، فتخرجت في قسم الآثار الإسلامية بكلية الأداب جامعة حلوان، وحصلت على الماجستير في العمارة وتناقش حاليا الدكتوراة في المسكوكات، وابنتي الصغرى “منار” درست في قسم التاريخ، أما ابني “محمد” فلم يهوى المجال ودرس علم النفس.
– يجب تغيير الإجراء الإداري لترميم الآثار والذي يعتمد على عمل مناقصة ترسو على من يقدم أقل سعر: “بيتعمل زيه زي أي مقاولة وده غلط.. لأنه أقل سعر بيدي أردأ شغل.. هو بيتكلف أكتر، انت بتصرف وترمم غلط كل 10 سنين، طيب ما تيجي نرمم مرة واحدة كل 100 سنة وأعمله صيانة دورية شهرية عشان يفضل سليم، لما أرمم الأثر صح بخامات صح وعلى إيد فني متخصص مش شركة مش هيبقى فيه تشويه، عندي كوادر فنيين الآثار في الوزارة أشغلهم في الترميم”، وكل ما تطلبه الآثار الإسلامية مني سأقدمه مجانا.
كما لا يجب الخلط ما بين إدارة وزارتي الآثار والأوقاف على حساب الأثر: “افتحوا الآثار للناس وخدوا تذاكر.. التذاكر هتصرف على الأثر.. خلي فيه رِجل في الأثر عشان يفضل حي”، منطقة الغورية مثلا أغلب آثارها التي تم ترميمها مغلقة، كما يجب الكف عن تجميع القمامة أمام الآثار.
– الآثار الإسلامية في مصر هي الأقدم والأبدع والأجمل، والسبب ليس عظمة الإبداع الفني فقط ولكن تفرد العنصر المعماري أيضا، فأفخم وأعرق وأهم منشأة إسلامية في العالم هي مدرسة السلطان حسن، وأقدم جامع في أفريقيا هو جامع عمرو بن العاص، وأكبر نصف قطر لقبو عالميا موجود في مدرسة السلطان حسن، وثاني وثالث أعلى مآذن العالم أثريا موجودين في مصر وهما مأذنة جامع محمد علي والمأذنة الجنوبية لمدرسة السلطان حسن، وشارع المعز هو أكبر متحف مفتوح في العالم ويضم 36 أثر متلاصقين على الشارع بخلاف آثار شوارعه الجانبية، كما توجد بشارع المعز آثار متنوعة منذ عصر الخلفاء الراشدين وحتى أسرة محمد علي.
فالآثار المعمارية بمثابة سند أساسي لحفظ التاريخ، فالتاريخ يُكتب من المسكوكات (العملة) والوثائق والحجج والعمارة؛ ومن الممكن معرفة تاريخ الأثر من عناصره المعمارية، فالإبداع الفني والمعماري والزخرفي في العمارة المصرية أهم بكثير من العالم كله، ومصر بها أكبر كم آثار إسلامية في العالم.
– أنا متفائل بطبعي على أمل تحقيق الإصلاح في كل لحظة ولن أملّ، وسنظل نكافح ونناشد بترميم وإصلاح الآثار طوال العمر، لو اهتممنا بالآثار سنأكل بملعقة من ذهب، فالآثار كنز ومفتوح لمَ لا تأخذ منه؟ فقط اهتم وستأخذ الكثير، رمّم الأثر وافتحه للزيارة، أجدادنا تركوا لنا ميراثا عظيما فلنحافظ عليه ونحييه.
وأناشد الرئيس عبد الفتاح السيسي تخصيص جزءا من صندوق تحيا مصر أو من أي معونة لإعطاء الآثار دفعة بالترميم والصيانة؛ لنجني اقتصاديا ما يفوق إيرادات قناة السويس والبترول والغاز مجتمعة، كما أدعو إلى تعيين من يستحق في إدارة هذا التراث العظيم، وأتساءل: لم لا يتم تسجيل الآثار غير المسجلة؟! كما أؤكد أنه يجب عدم هدم أو شطب الآثار تحت أي ظرف.
– إذا حققنا اهتماما حقيقيا بسياحة الآثار سيكون مصدر دخلنا الأول منها؛ فمصر بها تراث لو تم الاهتمام به سيفوق عائده إيرادات البترول والغاز الطبيعي.
– أقول لشباب الأثريين ألا يخشوا في الحق لومة لائم، فإذا وجدوا مشكلة ستضر الأثر عليهم ألا يصمتوا لأن هذا هو حق الأثر عليهم، وأقول لهم: “اشتغلوا من أجل البلد.. وحب جدا عملك وقم به بحب، سيكافئك التاريخ حتما.. وبقولهم أنا من بدايتي للآن مبقعدش.. وبقول لمفتش الآثار خليك جنب الأثر متقعدش على مكتبك وتسيبه”، فعلى الأثري أن يجمع ما بين البحث العلمي والعمل الميداني.. وهذا أنا، ورسالتي إلى أطفال وشباب مصر: حبوا تراثكم وحافظوا عليه.
– قضيت في عملي بالآثار 41 عاما، الرحلة كانت طويلة وما زالت مستمرة في نشر الوعي الأثري الذي بدأته منذ عام 1984 قبل أن يعلم أحد ما معنى وعي أثري، وقدمت في هذا الإطار حلقات تلفزيونية عديدة لقنوات مصرية وعربية، والآثار محتاجة من يحبها، إلى جانب إشراف بدقة دون تعنت، وصيانة دورية، ، فالأثر باقٍ ونحن زائلون: “يهمني نسيبها سليمة.. وعلى الأجيال القادمة اللي بحاول أصحصحهم وأنزل الشارع عشانهم أن يحاولوا مع القادمين إلى أن تصحو الدولة للنهوض بالآثار”.