“عبثاً يصرخ أساتذة اليأس. فهم لن يجعلوا الحياة، أبداً، معاناة خالصة. ولكي نعاين مدى فداحة فرضيتهم هذه، يكفي أن يخرج المرء من بيته قليلاً، أن يسافر قليلاً، أن يفتح عينيه. فليذهبوا ليتحدثوا عن العدم إلى المعتاشين على القمامة في القاهرة، إلى الشباب الذين يتعلمون دروساً في كتابة السيناريو في واغادوغو، إلى راقصات الهند الجميلات، إلى الصيادين في مارسيليا، إلى عازفي الكمان في أوركسترا شيكاغو الفيلهارمونية، إلى العائلات التي تتنزه بين القبور في مكسيكو، إلى بائعي الخضروات في بكين: سيهزؤون بكم، فلديهم ما يفعلونه خيراً من الاستماع إلى ندبكم، وهم يفعلون! إنها لا تُعدّ ولا تحصى الظواهر التي تثبت فشل نظريات عشّاق السواد. إن العدم، وإن بدا ذا سلطة مطلقة ولا نهائياً على نحو مرعب، هو في الحقيقة شيء ضئيل وضيّق، بل سأقول ما هو أكثر: إن الحياة البشرية جديرة بأحكام أقلّ تسطيحاً من ثنائية: أمل/يأس، فهي في آن معاً، رائعة ومرعبة، مسلية وفظيعة، نبيلة وبذيئة، خير وشر، إنها معقدة، وبالتالي يتعذّر توقعها، وهذا يجعلها مثيرة للشغف، هذا هو شرط تفكيرنا والنبع الوحيد لضوئنا. الحياة ليست عبثية ولا غير عبثية، إنها كائنة، وهي ما يصنعه الناس بها”.
تلك هي الكاتبة كندية المولد نانسي هيوستن Nancy Huston في نهاية كتابها Professeurs de désespoir الصادر في ترجمته العربية بعنوان “أساتذة اليأس” عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (مشروع كلمة). وأساتذة اليأس الذين تقصدهم المؤلفة هم كتّاب الفلسفة/النزعة العدمية في الفكر الأوروبي الحديث من قبيل آرثر شوبنهاور وصامويل بيكيت وإميل سيوران وميلان كونديرا وإمري كيرتيش وإلفريدي يلينيك وكريستين أنجو وسارة كين.
ولأن كلمة/مفهوم العدمية Nihilism قد تشير إلى دلالات مختلفة (في روسيا القرن التاسع عشر – تقول المؤلفة في الفصل الثاني من الكتاب – لم تكن الكلمة تشير إلى اليائسين الذين ما عادوا يكترثون لشيء، بل إلى الراديكاليين الذين كانت عقيدتهم تتمثل في سؤال تشيرنيشيفسكي Tchernychevsky “ما العمل؟” وكان خصمهم العنيد هو فيودور دوستويفسكي) فإن نانسي هيوستن تقول إنها تفضل في معظم الأحيان كلمات من قبيل “سلبي” أو “تدميري” لوصف مذهب ما تسميهم أساتذة اليأس الحديثين.
في بداية الفصل الثاني من الكتاب تشير المؤلفة إلى مذهب العدميين الذي يرى بأن كل أفعال الإنسان عبثية وأن كل آماله محكومة بالفشل وعليه فقد يكون من الأجدر الانتحار على الفور أو اللجوء إلى الكتابة. هذا عندما يكون العدمي (السلبي/التدميري/عاشق السواد بحسب نانسي هيوستن) كاتباً، فماذا سيفعل العدمي الذي لا يمتلك موهبة الكتابة؟ نقفز إلى الفصل الثالث عشر والأخير من الكتاب للاطّلاع على بعض ما ورد في سياق الإجابة على هذا التساؤل: “أما من جانب القرّاء، فإن قراءة النصوص العدمية الكبرى تمثل في الأغلب تجربة مثيرة. فالتعبير عن اليأس يدفعنا إلى التأمل، أكثر بكثير مما يفعل التعبير عن الغبطة. إننا نعثر فيه على بغيتنا لأننا لا نجد اعترافاً بآلامنا الخاصة فحسب، بل نجدها وقد ارتُقي بها إلى النبل والتوهج بفعل روعة الأدب”.
ذلك بافتراض أن الناس تجاه العدمية (السلبية، التدميرية، أو حتى العبثية) تنقسم إلى فئتين: كتّاب وقرّاء، وهو أمر واقع بالنظر إلى أن العدمية هي مبدأ أنتجه أدباء ومفكرون ولم يكن ثم من سبيل إلى وصف مستهلكيه سوى بالقرّاء. ولكن بعيداً عن الاتجاه الفلسفي/الفكري وما تمخض عنه من إنتاج مكتوب، كيف كانت استجابات الناس عموماً ممن يحسون بمعاني العدمية (حتى إذا لم يكونوا مدركين لها بوصفها مذهباً أدبياً) تجاه الفكرة؟ هل انغلق كل من أحس بالعدمية على نفسه وانكفأ عن الناس؟ وإذا صحّ أنه فعل ذلك فما الذي كان يقوم به خلال انعزاله ليكسب قوته ويواصل الحياة؟ أم إن العدمية بالفعل ليست منتِجة إلا إذا أحسّ بها كاتب أو فنان وتلقّاها متذوّق للفكر أوالفن؟
إضافة للاقتطاف الأخير عن الفصل الثالث عشر من كتاب هيوستن، فإن الاقتطاف التالي يشي بالفعل بأن العدمية لا يتسنّى الإحساس بها والتعامل معها إلا عبر الإنتاج والاستهلاك من خلال ثنائي الإبداع والتلقّي عبر الكتابة والقراءة: “لكي تصبح عدمياً إذن، لا يكفي أن تكون يائساً، بل يلزم أن يتحول يأسك من يأس خاص إلى يأس عمومي، أن يعلن عن نفسه بوصفه شغفك الوحيد، علّة وجودك، ورسالتك إلى العالم”.
بالنظر مجدداً فيما وراء الكتابة والقراءة، وبتجاوز العدمية تحديداً كمذهب فكري وأدبي، فإن طبقات وطوائف المجتمع الأخرى تنتابها أفكار العبثية/اللاجدوى وأحاسيس اليأس تجاه الحياة والوجود حتى إذا كانت غير قادرة على التعبير للآخرين عن تلك الأفكار والأحاسيس أو غير مهتمة بتأمّل ما يعبّر عنه الآخرون على الصعيد نفسه.
في كل الأحوال، يبدو أن ما يدفع الجميع إلى الاستمرار في الإنتاج (وليس فحسب الاستمرار في الحياة بدافع غريزة البقاء) هي الموهبة التي يمتلكها كل واحد في مجاله أيّاً كان، بحيث تشكّل تلك الموهبةُ الشغفَ/الوقودَ اللازم للسير في طرقات الحياة حتى والواحد يعتصره الهم والأسى.
لكن الأمر مع أصحاب المواهب الرفيعة يتجاوز مجرد الرغبة في مواصلة السير في طرقات الحياة إلى أحلام التحليق في سماوات الوجود حتى مع ثقل وطأة الهم وشدة سطوة الأسى، بل ومع فداحة التفكير في لاجدوى الحياة.
وبذلك فإن العدميين/التدميريين/السلبيين ظلوا يحلمون بالشهرة ويسعون إلى المجد في غمرة أفكارهم ومشاعرهم العدمية/التدميرية/السلبية تلك. تقول هيوستن: “وكما رأينا فإن أغلب أولئك المؤلفين كانوا يكرسون وقتاً وجهداً هائلين في تجويد أعمالهم: فيلجأ بيكيت إلى الدعابة اللاذعة، سيوران إلى أناقة التركيب اللغوي، كونديرا إلى نسيج مكثف يجمع بين النظرية والتخييل، وبيرنهارد إلى طاقة لفظية لا يكبح جماحها، وهكذا دواليك. ولعل بوسعنا القول إن الشكل يستخدم كترياق ضد سم الرسالة الظاهرة. وفيما يتبنى الكاتب موقفاً يزدري الجموع، فإنه يقدم في الآن نفسه ثمرة عمله لتلك الجموع نفسها (ومن غيرها يمكن تقديمها إليه؟) فعلى الرغم من كل شيء، هنالك إذن تبادل، نقل وعطاء، ولا يمكن للأمر إلا أن يكون على هذا النحو. والعدميّون موهوبون وهم يعطون. وموهبتهم تحول بينهم وبين السقوط، لهذا السبب فإنهم يصفون النشاط الإبداعي بأنه الشيء الوحيد الذي يمنح لوجودهم معنى”.
لم يكن النشاط الإبداعي فقط بمثابة الشيء الوحيد الذي منح معنى لوجود أولئك “اليائسين”، بل كان أيضاً، وربما ابتداءً، المظهرَ الذي فضح تَوْقَهم إلى الشهرة بوصفها قمة ما يصبو إليه المبدع من درجات الاعتراف والتقدير من قبل الآخرين.
للتواصل مع الكاتب: [email protected]